طباعة

مسلمون بلا إسلام...(من الشّعائريّ إلى الرّوحانيّ)

حين كنّا أطفالا ندرس العلوم الدّينيّة، كان لنا كرّاس نقسمه نصفين، نصفا للعبادات ونصفا للأخلاق. وبالنّظر إلى حال الإسلام والمسلمين اليوم، فإنّ النّصف الخاصّ بالبعد الأخلاقيّ قد ضمر إلى حدّ الغياب أحيانا.

لا يمكن لأحد أن ينكر أنّ في عالمنا العربيّ الإسلاميّ اليوم عودة كثيفة للدّينيّ بمعناه الطّقوسي القائم على تطبيق الشّعائر والالتزام بجزئيّات العبادات حدّ الهوس أحيانا. وتساؤلات عموم المسلمين الفقهيّة تثبت ذلك فمن سائل عن حكم صيام يوم الجمعة إلى سائل عن مدى صحّة الوضوء بطلاء الأظافر إلى سائل عن حكم المعاملات البنكية الحديثة إلى سائل عن لون ثوب الإحرام للمرأة.

 

ما العدد الكبير من الفتاوى التي تتحفنا بها وسائل الإعلام والّتي تفيض عبر شبكات التّواصل إلاّ دليل على هذه الحاجة إلى الأجوبة التّفصيلية.

 

 

وفي مقابل هذا الإطناب في الاهتمام بالبعد الطّقوسيّ والإجرائي نلحظ إعراضا يكاد يكون شاملا عن الدّلالات الفلسفية والرّوحانيّة للإسلام. ولعلّ غياب هذا البعد الرّوحانيّ هو أحد أسباب تفكّك العلاقة بين العبادات والأخلاق(L'éthique) في كثير من المجتمعات الإسلامية الحديثة تجد فيها المسلم قائما بشعائر الإسلام على أكمل وجه، لكنّ واجباته هذه لا تنهاه عن إلحاق الضرر بالآخر ولا تنهاه عن الغيبة ولا تعلّمه بعض مظاهر التمدّن البسيطة شأن انتظار دوره في الصّفوف أو احترام قوانين المرور. بل إنّي رأيت بأمّ عيني مسلمين أثناء الحجّ يتدافعون أمام المحلاّت التجارية بلا داع، ورأيت بعضهم يلقي بفضلات الطّعام أمام الحرم المكّي دون أيّ حرج، ورأيت في موسم الحجّ ذاته باعة يضاعفون ثمن البضائع للحجّاج بالنّسبة إلى ثمنها في سائر الأيّام، وإذ سألتهم عن سبب ذلك، احتجّوا بأنّهم في موسم تجاريّ.

فأين العبادات؟ ولماذا لا تنهى هؤلاء الممارسين لها عن مثل أنماط السّلوك هذه؟

إنّ الهوّة بين العبادات والمعاملات اليوميّة أصبحت مسألة مبتذلة تكاد تكون غائبة عن ذهن كثير من المسلمين. فقد اتّفق أن تحاورتُ مع بعض المتشبّثين بتطبيق الطقوس حرفيّا ممّن يعمدون إلى ممارسات مختلفة أذكر نماذج منها. بعضهم يغشّ في الامتحانات والبعض الآخر يعطي شهادات طبّية مزيّفة أو يعتمدها للغياب عن العمل، وضرب ثالث يعتمد الواسطة لتشغيل أقربائه ومعارفه أو لتيسير نجاحهم في الامتحانات، وضرب رابع يوقف سيّارته في أماكن ممنوعة، وضرب خامس يجعل كراسيّ مقهاه تمتدّ على طول الشّارع الخاص بمرور المترجّلين، وضرب سادس يسرّب معلومات سرّية خاصّة بعمله إلخ...والأمثلة أكثر من أن تُحصى وأن تُعدّ. ليس غرضنا تعداد الأمثلة، وإنّما بيان أنّ هؤلاء جميعا، ومن خلال حوارنا معهم، يؤكّدون أنّهم لا يرون أيّ علاقة بين ممارستهم شعائر الإسلام وما يقومون به من أعمال تتنافى وجوهر هذه الشّعائر. فكأنّ الصّلاة والزّكاة والصّوم والحجّ أفعال مفارقة مستقلّة عن أفعال المسلم، وكأنّ المسلم هو من يلتزم بالشّعائر بغضّ الطّرف عن القيام بالصّالحات. وحتّى إذا وجدنا من يهتمّ بعمل بالصّالحات فإنّه لا يَعدّ منها احترام الآخر والتّعايش الجماعي بين البشر وعدم تقديم المصلحة الأنانيّة الضّيّقة على المصلحة العامّة إلخ...

إنّنا نزعم أنّ أركان الإسلام أكبر من القراءة الوصفيّة لها وتفيد "الوصفيّة" هنا معنيين: معنى الوصف بتحديد الشّروط والخصائص الفقهيّة من جهة ومعنى الوصفة الّتي تقدّم قائمة مضبوطة في المفسدات والمحظورات وكمّ الأجور الدّقيق.

والحقّ أنّي كثيرا ما تساءلت إذ استمعت إلى بعض الشّيوخ يضبطون زمنا محدودا لصلاة النّوافل ويعتبرون الصّلاة في سواها من الأزمنة أمرا مكروها. تساءلتُ: هل تولية الإنسان العابد وجهه إلى وجه الله المعبود تُكره في أوقات؟ وهل الله تعالى برحمته الواسعة وبحبّه لمخلوقاته يضبط للإنسان أوقاتا معلومة يقبل فيها مناجاته ويغلق في وجهه-لا قدّر الله- باب الاستماع إليه في أزمنة أخرى؟ وكثيرا ما سمعت خلافا حول جواز نقل زكاة الفطر إلى بلد غير البلد الذي يوجد به من يدفع الزّكاة، فهل إعطاء المال إلى الفقير المسلم رهين حدود جغرافية متحوّلة عبر التّاريخ؟ بل إن بعض الشيوخ طرحوا مدى بطلان إحرام المرأة التي تلبس جوربين أسودين، فكأنّ مناجاة الله تعالى في الحج متّصلة بلون الجورب وبوجوده من عدمه.

لا أحد ينفي أهمّية الشّعائر ومظاهر

التديّن، فقط نحن نتساءل عن تحوّلها

إلى شجرة تحجب الغابة. فقط نحن

نتساءل عن تصوّر البعض أنّ الالتزام بها

وحده شاف، بل يمكن حتّى أن يشفع

لقلّة الأدب والتّشفّي والرّشوة

والمحسوبيّة.

 

وإنّنا نرى أنّه يمكن تفسير طغيان التّديّن الظّاهر على الأخذ بسبل الأخلاق بسببين، أوّلهما هو يُسْر الشّعائر في بعدها الشّكليّ في مقابل عسر الإطيقا بما هي في أساسها توار للأنانيّة وراء حبّ الخير للغير. إنّ تولية الوجه نحو القبلة خمسة مرّات أو صيام شهر كامل قد تكون أيسر لدى البعض من التّطبيق الحرفيّ لمقولة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام: "لن يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه". أمّا السّبب الثّاني لطغيان الشّعائر على الأخلاق، فهو أنّنا نحيا عصر الصّورة الّتي تجعل جلّ أعمال البشر تهدف إلى أن تُرى وإلى أن تحصل على اعتراف الجماعة. إنّ تأكيد البعد "الفرجويّ" للشّعائر متلائم مع تقديم صورة "ظاهرة" عن الإنسان المسلم. وفي مقابل ذلك، فإنّ الالتزام بالبعد الأخلاقيّ في مختلف سياقات اليوميّ ليس بالضّرورة ممّا يَعرف به الآخرون أو يتداولونه. ومن اللّطيف أنّ بعض ضروب السّلوك الأخلاقيّة نفسها قد تُحوّل أحيانا إلى صورة ظاهرة سعيا إلى الاعتراف الجماعيّ المنشود. ولعلّ أبرز الأمثلة على ذلك هو مثال من يساعد المحتاجين ويعلن عن مساعداته تلك أمام كاميرات التلفزيون وعلى صفحات الجرائد أو صفحات الشّبكات الاجتماعيّة الإلكترونيّة.

يرى أبو حامد الغزالي أنّ "لكلّ عبادة ظاهرا وباطنا وقشرا ولبّا، ولقشورها درجات، ولكلّ درجة طبقات، فإليك الخيرة في أن تقنع بالقشر عن اللباب أو تتحيز إلى غمار أرباب الألباب" (كتاب الحجّ، الزّكاة، الصّوم، بيروت 1983، ص100). ويذكّرنا كلام الغزالي هذا بكلام المفكّر "باهرام إيلاهي" يؤكّد أنّ لكلّ الأديان وجهين، وجها طقوسيّا ووجها روحانيّا. وهي في ذلك شبيهة بحبّة لوز تغطّيها القشرة. والهدف هو كسر القشرة للوصول إلى ثمرة اللّوز، ولكنّ البعض يكتفي بالقشرة ولا يتصوّر أصلا وجود ثمرة اللّوز (طريق الكمال، باريس 2018، ص147).

بهرام إلهي

 

ورغم اختلاف السّياقات التّاريخيّة والتّقاليد الرّوحانيّة، فإنّ كلاّ من الغزالي وإيلاهي وسواهما لا ينفون أهمّية البعد الشّكليّ الظّاهر للعبادات لدى المتديّنين، ولكنّهم يذكّرون بأنّ هذا البعد وحده غير كاف. إنّهم يدعون إلى تجاوزه من أجل تجسيم العمق الأخلاقيّ الّذي يظلّ غاية الأديان القصوى. ألم يقل الرسول عليه الصلاة والسلام:"إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"، وأليست "إنّما" أداة قصر تؤكّد أنّ البعد الأخلاقيّ للرّسالة هو الأساس؟ وألم يقل الله تعالى: "إنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"، وأردف قوله هذا ب: "ولذكر الله أكبر" (العنكبوت، 45). نعم الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولكنّ ذكر الله أعمق وأكبر. إنّ ذكر الله هو في النّفاذ إلى الجوهر الرّوحانيّ للأديان. وهذا ما يجعلها نبراس خُلُق، وأداة تعايش وتحابّ وتقارب بين البشر يتنوّعون ويتعدّدون ويختلفون، ولكنّ تنوّعهم وتعدّدهم واختلافهم لا يشير إلاّ إلى الواحد الأحد.

 

د-ألفة يوسف