Imprimer

في الغيرة في القرآن: قراءة نفسيّة تحليليّة

 

لا يبلغُ اهتمامُ الغيورُ بالموضوع الّذي يطمحُ إلى امتلاكه مبلغ اهتمامه بما يمنحهُ هذا الموضوعُ من لذّة للآخر، وفي حقيقة الأمر، يتوق الغيورُ إلى الاستحواذ على منزلة الآخر، مثل حال إبليس الّذي لم يكن يهتمّ كثيرًا برضا الله عنه أو تقديره لهُ كملاكٍ، قدرَ رغبتهِ في أن يكون في موضع آدم وَمكانه وَبالتّالي يختصّ لنفسه برضا الله وَتقديره، فهو يعتبرُ نفسه أفضل من هذا الأخير إلى حدّ جعله يُحقّر عمليّة خلقه

7 12 ghm

وهذه الرّغبةُ في الاستحواذ على منزلة الآخر قد تبلغُ حدّ القتل،  وَفي أغلب الأحيان يكون هذا القتل قتلًا هوّاماتيًا (meurtre fantasmagorique)

يتكشّفُ هذا القتل خصوصًا في شوقِ الطّفلِ- وهو شوقٌ لا واعٍ- إلى قتل مُنافسهِ، أي أبيه، كي يستحوذ على منزلتهِ إلى جانب الأمّ. وَلكن إذا كان هذا القتلُ الهوّاماتيّ يميّزُ مرحلة نفسيّة ضروريّة يمرُّ بها الطّفل قبل مغادرتهِ للمرحلة الأوديبيّة، فإنّ القتل، بما هو فعلُ قضاء ماديّ على المُنافسِ، يعدُّ أكثر علامات الغيرةِ تمظهرًا، وضمن هذه الرُّؤية تندرجُ أوّل جريمةُ قتلٍ عرفتها البشريّة.

 

cain abel ghm

 

لقد قام واحدٌ من أبناء آدم بقتل أخيه، وَمع أن القرآن يسكتُ عن اسميهما[1]، فإنّ التُّراث الساميّ يُطلق اسم قابيل على القاتل واسم هابيل على القتيل، ولقد عرض المفسّرون روايتينِ تشرحان سبب الجريمة. تقول الأُولى إنّ هابيل وقابيل قدّما قربانًا إلى الله، وكان هابيل راعيًا فقدّم أحسن كبش في غنمه، وكان قابيل فلاّحا فقدّم أسوأ ما في حصاده، فنزلت نارٌ من السّماء على كبش هابيل وأحرقته، وَكانت تلك علامة على قُبول القربان، ولكنّها لم تنزل على حنطة قابيل، فزاد حسدهُ لأخيه فقام بقتله. وتقولُ الرواية الثّانية إنّ حواء كانت تلد في كلّ بطن ولداً وبنتًا، فيحلّ زواج ابن البطن الأوّل من بنت البطن الثّاني وَالعكس، بعد ذلك وضعت حواء تَوأمين وَهُما قابيل وأخته، وَهابيل وأخته، وكبر الإخوة في رعاية الأبوين، ثُمّ أراد قابيل أن يتزوّج بأخت هابيل، وَكان أكبر منه، وَأخت قابيل أحسن، فأراد قابيل أن يستأثر بها على أخيه، وَطلب من أبيه آدم عليه السّلام أن يزوجه إيّاها فأبى. ولكي يحكم آدم بينهما، أمرهمَا أن يُقدّمَا قربانًا ففعلا، فنزلت نار من السّماء والتهمت قربان هابيل، وكانت هذه علامة قبول قربانه، بينما لم تمسّ النّار قربان أخيه. فملأ الحسدُ قلب قابيل على أخيه وقتله[2]. وَفي تقديرنا، لا يعدُّ الاختلاف بين الروايتين جوهريًّا، ففي القصّتين، رفض قابيل القرار الإلهيّ، وَمن ثمّة رفض حُكم القانون الّذي أنشأ الأخوين داخل الاختلاف، وأراد أن يستحوذ على منزلة أخيه، وَما كان هذا ليتحقّق إلّا بإزاحته بعد أن صار غريمه، مثلما هو الحالُ في قصّة إخوة يوسف، فهُم لم يعلنوا رفضهم للشّريعة الإلهيّة الّتي جعلت من أخيهم يوسف نبيًّا، فذلك أمرٌ لم يكن قد حدث بعد، وإنّما أرادوا إزاحة يوسف والاستئثار بمنزلته في قلب أبيهم، يقولُ القرآن في الآيتين 8 و9 من سورة يوسف:

 

" إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ. اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ".

 

إنّ الغَيور، في انتهاكه للقانون وَمُعاناته من استحالة النّفاذ إلى المُتعة اللّامحدودة، لا يُعاني لأنّه واحدٌ من بين آخرين فحسب، وإنّمَا يعاني خصوصًا لعجزهِ عن تملّك المُتعة.

 

وتتجاوز المُعاناة هُنا مُجرّد التمتّعِ بدلًا من الآخر فتصيرُ الرّغبة في التمتّع في موضع الآخر ومكانه، إذ كان هو موضعُ الأصل لما وُجد الآخرون بوصفهم منافسين له، وَالحقّ أنّ الغيور يُعاني لأنّه لم يكن الأوّل، بل يأتي الثّاني في الترتيب، حالهُ كحال بقيّة البشر الّذين سبقهم موضعُ "ال- آخر"، ومن ثمّة يعجزُ عن التدخّلَ وتغيير هذه الحقيقة. ولقد قدّم لنَا القرآن شخصيّتين مثّلتَا صراحةً أولئك الّذين يغارون من منزلة "الأوّل"، أيْ الله[1]

 الشخصيّة الأولى هي مخاطب إبراهيم في الآية 258 من سورة البقرة: " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ". وقدْ سكت القرآن عن هوّية ذلك المخاطِب، رَغم أنّ المفسّرين قالوا إنّه النمرود بن كنعان[2]، أوْ بمعنى أدقّ، النمرود البابليّ، فهذا الأخير لم يرض أن يمتلك الله قدرةً الإحياء والإماتة دُون أن يتمكّن بدوره من حيازتها، وهذه الصفةُ تحديدًا هي ما يَجعلُ من الله الأوّلَ، وَمُعاناة هذا الغيور تَتجاوزُ عدم حيازته القُدرة على الإحياء وَالإماتة إلى عدم حيازته القُدرة على حياتهِ نفسها، فهُو لا يمتلكها، ناهيك أنّها هبة من "ال- آخر" لهُ، هبة يعجزُ هو نفسه عن النّفاذ إليها.

أمّا الشّخصية القرآنيّة الثّانية الّتي غارت من الله لأنّه الأوّلُ، فهي شخصيّة فرعون الّذي أعلنُ نفسهُ ربًّا صراحة وَمن ثمّة أراد أن يُثبت لمُوسى أنّ إلهه غير موجودٍ مثلما جاء ذكر ذلك في الآية 38 من سورة القصص: " وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ".

[1] الأوّل هو اسم من أسماء الله الحسنى.

[2] تفسير الرّازي، المجلّد 7، ص. 23.

[1] "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ. فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (سورة المائدة، الآيات 26-30).

ولعلّ سكوت القرآن عن اسمي ولدي آدم يكشفُ عن مغزى عام لعاطفة الغيرة، إذ تعتبرُ هاهنا الدافع الرئيسي لجريمة القتل المرتكبة.

[2] تفسير الرازي، المجلد 11، ص. 209.