• +216 52 231 166
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

مقالات حول الكاتبة

~ Articles à propos de l'auteire Olfa YOUSSEF ~

وجه الله: دروب غير مسلوكة سابقا

صدر في بداية شهر ديسمبر من سنتنا التي تغادرنا متثاقلة (2019) كتاب قيّم للدكتورة ألفة يوسف تحت عنوان "وجه الله" ثلاثة سبل إلى الحق". وهو أثر يدشَن لقارة جديدة في التناول بعيدا عن كل تصنيف منهجي أو مفهومي و هو متحرر من كل القيود الأكاديمية أسلوبا و منهجا و مفهوما, إنه يسلك دربا جديدا و يتقصَى أثر تجربة فريدة و مخصوصة هي تجربة لقاء غريب و خلاب مع الله.

لعل المدهش حقا في هذا اللقاء هو التنصيص على تعدد السبل و تنوَعها بتنوَع العقول و باختلاف أشكال حضور الإنسان في العالم وبتكثَر فعل الإنسان في الكون.

فماهي مواقع الجدَة في كتاب وجه الله؟

  • خيبة انتظاراتنا ووميض الذات:

كنا ننتظر من الأستاذة ألفة يوسف أن تجذَرنا في حقلها المعرفي المعهود و القائم على صرامة المنهج ودقة المفهوم و الحرص المدرسي على التنظيم فإذا بنا أمام متعة الاكتشاف الذاتي كضرب من الفيض المعرفي الغير مسبوق بخطًة و الذي لم تفسده قواعد المنهج فكان وصفا لتجربة ذاتية مغرقة في البوح فهي تقول شيئا واحدا بكثير من الكلمات, الواحد المتكثَر في موجوداتة هو الله الذي لا تسع لقائنا به لغة و لا قولا.

لعلَ ما تردد كثيرا في الأثر هو التألم من عجز اللَغة و الرغبة في تجاوز المنحى الاسمي لملامسة عمق الموجود الواجد و لكن خيبتنا كانت أعظم فنحن لم نعثر في الأثر على أحكام فقهية أو معرفة دقيقة عالمة بالنص القرآني بل القراءة للكتاب كانت منذ وهلتها الأولى إطلالة على مدار جديد و أرض جديدة تطؤها قدم الكاتبة و هي أرض اليقين والوجد و الحلول أرض غير مكتشفة سابقا بالنسبة لقاطن العصر و المتسلَح بالوسائط و الأدوات المعرفية والتقنية.

تدعونا ألفة يوسف في هذا الكتاب إلى التحقَق من كل الوسائط اللغوية و الرمزية و التقنية و من كل المقاربات لتلقى بنا في بوح فعلي حيث تكون الأنا عارية من كل ما يثقلها متحرَرة من كل معرفة سابقة كمن يدخل حقلا لأول مرة.

هل ذلك يعني أنها أوَل المتحدثين عن السبل إلى الله ؟

انه من المغالاة و سوء التقدير افتراض أن وجه اللَه بحث تأسيسي في اكتشاف اللَه في ذواتنا لكن من المنصف أن نلاحظ أن الجديد فعلا هو : جدَة الأسلوب و بساطته و كل مايدرك جيدا يقال بوضوح.

غياب معنى الدحض و الجدال و الخصومة ففي كل الكتاب لم يتم التعرض إلى أي فكر بالدحض أو التجاوز أو الرفض أو التصغير بل بالعكس هناك رغبة في الاستيعاب و التسامح المعرفي المذهل و الانكفاء على الذات و كأن لا شيء قيل سابقا.

التأسيس الذاتي لضرب من اليقين المريح و المطمئن أي محاولة الوقوف على تأويل و ليس تفسير يمنح الطمأنينة و دون أن يؤذي أحدا و يرفع شعار الكف عن الأذى المعرفي طلبا للأتراكسيا Ataraxieأي راحة النفس و ايذانا بتحقق الأبونياAponie أي راحة الجسد فالمطلوب ليس إفحام الخصوم كما حدث في أثار سابقة بل سعادة الذات بما تقتضيه من سكينة و هدوء و انكفاء على الأنا كضرب من الأيقولوجيا الموجبة Egologie positive .

إن انتظارات القارئ الجدالية و السجالية تمت التضحية بها في "وجه اللَه" لفسح المجال أمام ذات شفافة أرهقتها مسافة الركض لمسك حقيقة متدفقة كتدفَق الزمن و كتدفَق الوجود الالهي ذلك  السيل الأبدي.

هل يعني ذلك أن الكتاب لم يلتزم بأي اجرائيات؟

الذاتية لاتعني الفوضى و لا الانسياب المرضي كتداعي حرَ و إنما هناك نظام هو نظام العرض و ليس نظام الاكتشاف.

وفق نظام الاكتشاف يعبَر الكتاب عن تجربة في الزمن و في علاقة بالأشياء و الأحداث و الأشخاص شديدة اليقظة و التحفَز.إنّ نظام عرض الأفكار  L'ordre d'exposition  جعل الكتاب ينقسم إلى ثلاثة أبواب و هي :

  • طريق العمل
  • طريق الرضا
  • طريق الذكر

و تعهَدت الكاتبة بتوضيح كل طريق و ما يميَزها و طبيعة سالكيها و رهاناتها واحراجاتها حيث بيَنت أن :

  • طريق العمل: هو نمط من الفعل يقوده الإجرائي و يطلب الأجر الإلهي كاستحقاق و هو نسبي و سياقي في الزمان و المكان و في علاقة بالأخر و منطلقه القلب و الأنصاتإلى صوت الجوهر فينا .انه لازم بلا نقاش و عطاء يظل أثرا عبر الزمن.
  • طريق الرضا: و هو الفعل الذي يحركه و يدفعه النفسي و يتأسس على القبول بمشيئة اللَه ليس بوصفها الأفضل و لكن بما هي الوحيدة (ص61). حيث يكون العمل من نصيب الإنسان و نتيجة العمل من أمر اللَه ممَا يجعل الفعل شراكة بين العبد و الرب (ص65). فالإنسان ليس حرَا بإطلاق و إنما يحقق مشيئة اللَه. و يكون الرضا تأويلا بلا تفكير (ص101).

  إن طريق الرضا قوامه الحبَ و العرفان و عدم الجحود لأن الجحود هو الكفر الحقيقي و إنكار النعم هو ما يجعل الإنسان كافرا (ص112). فحالة الرضا اعتراف (ص128) ,اعتراف باللَه كفاعل أوحد وأننا نلعب دورا في الحياة و أن كل ما يحركنا للفعل مجرَد حيل العقل  Les ruses de la raison التي تحفَزنا لكي تتحقق الأهداف من خلالنا كما يعبر عن ذلك هيقل.

  • طريق الذكر:يغلب عليه الفلسفي و هو طريق التدفَق, تدفَق النفس و حيويتها و خلودها مثل تدفَق الزمن لدى ليبنيتز Leibniz حيث تؤسس الكاتبة لمفهوم مستحدث هو "الشاهد" أي ما يتبقى أو الجوهر أو الصفات اللامادية (ص155).

          فما السبيل إلى "الشاهد"؟

إن السبيل إلى الشاهد هو الخشوع كوجه مستيقظ الحضور لتقبل الحقيقة في مقابل الغفلة أي وجه المعرفة و الإدراك في مقابل وجه غفلي بتعبير ليفيناس.

إنالإنسان بعيدا عن الشاهد و عن ماتبقى بعد التجربة و خوض سعة الحياة هو كالقابض على الماء إنالإنسانإن اكتنفته المادة و الحياة و اكتفى بها انه إذن لجبان و قد حذَره التاريخ من أن تكون الدنيا جنَته,فالإنسان كالماء يجري لم نقف له على وقفة قط و هو يركض في الحضرة الالهية.

فما دلالة الحضرة الالهية ؟

تميَز الأستاذة ألفة يوسف بين الحاضر بما هو مجال العرضي و الحدثي و الزائل و الاجرائي و النفعي و الحضرة بماهي الكينونة الأصلية.و تعتبر الحضرة الالهية ليس عبادة و إنما العبادة في معناها كجوهر و كشهادة لأن العبادة لا تنقطع لحظة حيث تقيم الكاتبة مقارنة طريفة بين الصلاة ككتاب موقوت و الصوم كشهر معلوم و الزكاة كمرَة في الحول و الحج في زمن بعينيه من جهة بوصفها عبادات في صيغة العابر و الظاهر و السطح و المرئي و المشهودو من جهة اخرىالشهادة تلك العبادة بألف و لام الاستغراق و العابرة للأني و الجزئي و المميَزة للشاهد و الدَالة على المشهد.

مشهديَة مدهشة و أنت تطالع الكتاب فتصبح أسيرا لرؤية جديدة للعبادة المطلقة و المتدفقة و اللامنقطعة و الخالية من الحركات و التدابير الزمنية لتصبح العبادة دعاء أو تلك الحضرة أو ذلك الإقرار الجازم بأن اللَه هو الذات المطلقة التي بها تكون الحياة (ص167)

فما الذي يراد قوله بهذه السبل إلى اللَه ؟

  • السبيل إلى اللَه : غنيمة تعب :

تلحظ  منذ المقدمة و التصدير أن الكتاب نتيجة تعب السعي و ثمار التأم جروح الذات المعطوبة و أن الأنا الكاتبة تتحرك فوق جروحها , جرح النفعي و صدمة و شرخ اللقاء بالأخر و مرارة الهشاشة و الضعف و التقدم في الزمن و القدامة في المعرفة المفسدة للحياة ,و إدراك المألات لكل سعي مادي و اجتماعي فكان الكتاب لا يطلب اعترافا بمعرفة يراكمها و لا يطلب مجدا لكاتبته بل يزعم أنه دليل إلى اللَه أو درب غير مسلوك يجنبنا الألم عبر تقليصه.

تحاول الكاتبة في هذا الأثر بلوغ السعادة فهو طريق إليالسعادة المطلقة و السكينة و الاطمئنان خارج تصاريف الحياة و ذلك بفضل انتقال جري ء و معلن من عبادة المخلوق /القرآن إلى عبادة الخالق/اللَه . وفي دلك ما يخبر عن قطع مع تصور عامي للدين يلتزم بالطقوس إلىممارسة فلسفية تطلبالحيرة و هي عبادة الخالق لذلك نجد في الصفحة 12 إخبارا عن أن الكتاب لا يتعلق بفكرة بل بتجربة.

فما الفرق الذي تقيمه الكاتبة بين الفكرة و التجربة ؟

  • الفكرة و التجربة :

إن الفكرة تقوم على منهج و تستند إلى الحجة و تطلب الموضوعية و غايتها إقناعالأخر و رؤية الأخر وجها مختلفا عن و جه الذات , و عادة ما تكون الفكرة ميتة و ثابتة في حين تكون التجربة عفوية و تلقائية و منسابة كتجربة عيش , ذاتية و متفردة , حية و حيوية و فيها إبداع و خلق و تستهدف الذات لتنشد الطمأنينة و السعادة.

بهذا التمييز ندرك أن الطريق إلى اللَه تجربة لأن وجه اللَه هو في الحقيقة وجهنا و لكننا نغفل عن ذلك في خضم اليومي و المعيش .

كتجربة معيشة و نظام اكتشاف حدسي Intuitif يسجل جملة عوائق أهمها:

  • عائق اللغة التي تشير و لا تفصح .
  • معضلة الوجود /اللَه الذي هو أكبر من الاسم (المنطوق أو المكتوب اللَه).
  • عدم حيازة منهج في الاكتشاف .

لكن رغم هذه العوائق و خصوصا عائق اللغة التي لا تقول الوجود  ولا تقول الحقيقة و عائق الحجب /الحجاب الذي يجعل من الوجود أعمق من القول (برقسون) فان الأثر توصَل إلى جملة مكاسب (ص207) .

 فما الذي نغنمه من الأثر ؟

  • التماثل و الاختلاف بين اللَه و الإنسان :

تورد الكاتبة حكاية الملك و الوزير و التي كان فيها الوزير يقول للملك دوما :"إن اللَه  لا يفعل الأ خيرا."  و في يوم قطع إصبع الملك في حادث و لما قال له الوزير"لعلَه خير" غضب الملك و أمر بحبسه, بعد ذلك بأيام خرج الملك في رحلة صيد فألقت عليه قبيلة متوحشة القبض و أرادوا أن يقدموه قربانا لإلههم و لكنهم تراجعوا عندما اكتشفوا إصبعه المقطوع, فالقربان يجب أن يكون سليما معافى ,عندها تذكَر الملك كلام وزيره و أخرجه من السجن معتذرا له. فقال الوزير :"لا تعتذر, فسجني أيضا خير, لأني لو شاركتك رحلة الصيد كنت أنا القربان لأن جسدي سليم . (ص80-81).

مثل هذه الحكاية تكشف جملة أفكار و هي :

  • عدم القدرة على تحديد الخير و الشر:لأن الإنسان علمه جزئي أو لا يعلم
  • التمييز بين الإنسان و اللَه :إن الإنسان إرادته لامتناهية و مطلقة و غير محدودة و لا ترتبط بشروط و من هنا فهو يشبه اللَه تماما لكن معرفته محدودة فهو لا يعلم إلا القليل كما أن قدرته محدودة و ضعيفة أي أن الإنسان لا تتطابق الإرادة لديه مع المعرفة مع القدرة أما اللَه فإرادته تتطابق و تتناسب مع معرفته و مع قدرته فهو إرادته لا متناهية و معرفته لا محدودة و قدرته لا متناهية أيضا لذلك فكل مايريده اللَه يعرفه و يقدر عليه .أما الإنسان فيداخله الوهم من جهة أن ما يريده لا يعرفه و لا يقدر عليه .
  • اللَه لا يخطئ :إرادة اللَه حسنة مطلقا و لكن حكمنا البشري عليها يلوَنها خيرا أو شرا لهذا فالعذاب هو أن يرفض الإنسان ماهو كائن .
  • ايتيقا الطريق أو ما لايعلمنا إياه الكتاب :

حين تنتهي من مطالعة "وجه اللَه" سرعان ما تتماهى مع مؤلفته في سعيها إلى تأسيس ميتافيزيقي لما هو إنساني و تأسيس ما هو إنساني و تاريخي استنادا إلى الميتافيزيقي حيث يكتسب الكتاب قيمته الأساسية لا من تماسكه المنطقي أو دقته المفهومية فحسب و إنما من هواجسه الايتيقية , فالكتاب رافعة لأخلاقية تقوم على :

  • إدراكمفهوم الدور و معنى الالتزام .
  • الوعي بعرضية وجودنا في العالم .
  • فهم أن الإنسان ليس فرحة الوجود و لا مأساته بل هو لحظة عبور.
  • نحن أدوات اللَه و آلاته و استخداماته و دلالة على وجهه .
  • وجوه البشر هي وجه اللَه , وجه اللَه هو وجه الأنا , نحن الوجه العارض لوجه الجوهر .
  • وجهي يسع الكون و ما فيه بما يعنيه ذلك من تجاوز للوجه الاستيتيقي نحو الوجه الايتيقي و بذلك يتحول الإنسان من عرض إلىذكر أو سياق ذو دلالة (ص212).
  • تجنب الصراع إدراكا بأننا أجزاء للكل و ضرورة أن يتحمل بعضنا بعضا تأصيلا للعيش مع الأخر أي التخلي عن وجه الذات و وجه الأخر من أجل ملاقاة وجه ثالث هو وجه اللَه ما دمت أنا و الأخر منخرطين في مشروع مطلق هو التاريخو الحقيقة أي ما يبقى من طريق الذكر.

هل معنى ذلك أن الكتاب بلا حدود و لا تشوبه نقائص ؟

  • تجربة حدسية لفارسة ايمان :

ككل تجربة ذاتية لا يمكن إخضاعها لمعايير مسقطة عليها من خارجها و لا لمعايير ثقة و تقييم ليست من مجالها . إنها تجربة تذوق اختلط فيها النفسي بالجمالي بالصوفي و بالعقل كحدس و استبصار لتطلعنا على الإلهي فينا و تجذَر الإنساني في واقعنا و المتمثل في :

  • إنتاج انطولوجيا تعتبر الموجودات موجودة من جهة دلالتها على الخالق .
  • تأسيس ابستيمولوجيا قوامها اختلاف الذات العارفة عن الموضوع المعروف .
  • انتاج اكسيولوجيا أخلاقية تسخر من القيم السائدة لتخبرنا عن ضرورة إتقان المهمة التي عهد بها للإنسان .

و هذا يعني ضرورة الكف عن السعي إلى معرفة مطابقة للواقع و مما يرسم حدود معرفتنا و حدود عقلنا واعتبار الواقع يفلت عن كل تحديد و النظر إلى أن الإنسان لا يدرك العالم كما هو بل كما يبدو له و من منظوريته إذ لا واقع خارج الإدراك (ص177)

ولان الوجود  غير موجود خارج وعينا به و قولنا له. و مثل هذا ينبهنا إلىصعوبة التواصل و معضلة التبليغ مما يجعل الصمت سبيلا أحيانا .

ما يراد حقا كشفه في هذا الكتاب هو الحق /اللَهإذ الاختلاف حق لكن لا اختلاف على الحق مهما اختلفت سبل إدراكه . و الكتاب ينبهنا صارخا :"تأكدوا جيدا إن لم يكن العمق ليس إلا طيات السطح ."

ما يخلص إليه الكتاب هو إعادة النظر في جملة بداهات أهمها :

  • إعادة تعريف الإنسان كشاهد .
  • تعديل فهمنا للهوية حيث أضحت تدرك لا بهيئتنا و إنما بما نحن الجوهر الإلهي متجسدا .
  • إعادة النظر في معنى اللَه هو إعادة رؤية العالم و الحياة بماهي عذاب في الظاهر و رحمة في الباطن.
  • مجاوزة التناقضات مجاوزة نهائية أمر غير ممكن لأن الكون قائم على المتقابلات

يشي الكتاب بأن الحل ليس في كراس المعلم و إن كان يدلَنا على وجه اللَه و يهمس بان كل ذات تفعل على طريقتها الخاصة فتجد طريقها إلى اللَه.

صابر بوزايدة

تونس في 19/12/2019


 
إشكاليات تعدّد المعنى في النصّ القرآني من خلال كتاب: "تعدّد المعنى في القرآن: بحث في أسس تعدّد المعنى في اللّغة من خلال تفاسير القرآن"

يُعدّ البحث في المعنى القرآنيّ مبحثاً أصيلاً في الثقافة العربيّة الإسلاميّة، له علاقاتوطيدة بمباحث متعدّدة الاختصاصات، مثل علم الكلام وعلم التفسير وعلم البلاغة،...، وهي دوائر ثقافيّة متداخلة يصعب الفصل بينها في الثقافة العربية الإسلامية، ولعلّ هذا التداخل أحد أهمّ الصعوبات التي تواجه الباحث في شأن "المعنى القرآنيّ".

ونحن إذا ما تأمّلنا البحوث المعاصرة المتصلة بالمسألة ألفيناها تسعى إلى تناول المسألة من منظور تقليدي يتمّ فيه ربط الظواهر البلاغية والنحوية بظاهرة الإعجاز القرآني حيناً، أو اعتماد المباحث اللغوية والبلاغية مداخل لفهم مقاصد النصّ القرآني في المستوى الفقهي (الأحكام،...) حينا آخر. وقلّ أنْ وجدنا محاولات تفكّر في النص القرآني باعتباره خطابا قائما على أقوال لغويّة تنطوي على تعدّد للمعنى، على النحو الذي فعلت ألفة يوسف في كتابها تعدد المعنى في القرآن والذي هو في الأصل أطروحة دكتوراه دولة في اللّغة والآداب العربيّة بعنوان "تعدّد المعنى في القرآن: بحث في أسس تعدّد المعنى في اللغة من خلال تفاسير القرآن"، وقد تمّ إنجاز هذا البحث في حرم الجامعة التونسيّة بإشراف من الأستاذ عبد السلام المسدّي، وقد توّلت مناقشة البحث في يوم 11 يونيو سنة 2002 لجنة علميّة من أهل الاختصاص يتقدّمها الأستاذ عبد القادر المهيري.

وقد رأى هذا العمل النّور بعد أشهر قليلة من تاريخ مناقشته في طبعة أولى نشرت بتونس في مارس 2003 نشراً مشتركاً بين دار سحر للنشر وكليّة الآداب بمنّوبة. وفي الكتاب تناولت الباحثة دقيق الإشكاليات المتعلّقة بـ"تعدّد المعنى في القرآن" باعتماد مقاربة واضحة المعالم راعت فيها خصوصيّات المبحث الذي تتصدّى له بالدرس، وقد بدت ألفة يوسف في كتابها واعية وعياً تامّاً بقيمة الرهانات المعرفيّة والحضاريّة المتّصلة بالمبحث، فالخوض في إشكاليات المعنى في القرآن الكريم لم يكن من المباحث الجديدة، بيد أنّ الرؤية المنهجيّة والتصوّر العام الذي انطلقت منه الباحثة هما مدار الطرافة، وعليهما قام رهان البحث –في تقديرنا-، وإليهما يعزى نجاح الكتاب وانتشاره، إذ لقي البحث صدى كبيراً في نفوس القرّاء وانتشاراً واسعاً في صفوف المختصّين وغير أهل الاختصاص ممّن شغلهم موضوع الكتاب وحرّك سواكنهم واستثار عقولهم وزرع فيهم بذرة الحيرة والسؤال.

ولئن كان هذا البحث مندرجا من جهة التخصّص الدقيق في ميدان اللّغة واللّسانيات، فإنّه يطلّ برأسه - بحكم الموضوع الذي يدور في فلكه - على مجال الدراسات الحضاريّة في معناها الواسع بما في ذلك أمّهات المواضيع الموصولة بالأديان ونصوصها المقدّسة، لذلك فكتاب الدكتورة ألفة يوسف الذي نحن بصدد تقديمه يقع في منزلة بين المنزلتين على نحو ما ذكرنا، فهو يسع من قضايا اللّغة عميقها وجديدها ومن أسئلة الحضارة والفكر العلميّ المعاصر خطيرها ودقيقها لا سيّما إذا كان المبحوث فيه "تعدّد المعنى" في النصّ القرآنيّ ذاته الذي ينظر إليه أغلب الفقهاء وأكثر المفسّرين وشقّ كبير من رجال الدين والدّعاة المسلمين على أساس أنّ له معنى ثابتاً واحداً مطلقا مقدّسا، لأنّه كلام نابع من مصدر إلهيّ متعال، فليس له من معنى إلاّ معنى أوحد ذاك الذي قصده اللّه متناسين أنّ المعنى في القرآن الكريم هو في نهاية الأمر حصيلة تفاعل العقل البشريّ مع هذا النصّ فهماً وتفسيراً وتأويلاً. ومن هذا المنطلق سعت ألفة يوسف إلى استقصاء أسس تعدّد المعنى في القرآن الكريم من منظور لغويّ ألسنيّ من خلال كتب تفسير القرآن، وعلى أساس رهان البحث وموضوعه ومجالات دراسته أقامت الباحثة عملها على قسمين كبيرين بينهما رباط دقيق وثيق، فلقد خصّصت القسم الأوّل لتناول "أسس تعدّد المعنى الماصدقي في اللّغة من خلال تفاسير القرآن". أمّا في القسم، فتعلّقت همّتها بتدبّر قضيّة "أسس تعدّد المعنى التأويليّ في اللّغة من خلال تفاسير القرآن".

ونظراً إلى تشعّب مسالك هذا البحث وتفرّع الإشكالات فيه إلى أدقّ الجزئيّات وزّعت ألفة يوسف مادّة كلّ قسم إلى بابين مهمّين؛ انقسم كلّ باب منهما إلى جملة من الفصول انقسمت بدورها إلى مباحث عديدة فعناصر...، وذلك على النحو الآتي: القسم، فالباب، فالفصل، فالمبحث، فالعنصر(الترقيم الرومانيّ)، فعناصر صغرى (الترقيم العربيّ) فعناصر أصغر(باعتماد الحروف العربيّة). وقد توزّع القسمان المكوّنان للكتاب على النحو الموالي:

وسمت ألفة يوسف القسم الأوّل بـ "أسس تعدّد المعنى الماصدقي في اللغة من خلال تفاسير القرآن"

احتوى القسم الأوّل من الكتاب على بابين، مدار أولّهما على بيان "أسس تعدّد المعنى الماصدقي على الوضع" (ص 25 ص210). أمّا ثانيهما، فقد انبنى على استصفاء "أسس تعدّد المعنى الماصدقي الوارد على المجاز" (ص211 ص288). قام الباب الأوّل على ثلاثة فصول يحكمها منطق التدرّج من النظرفي"أسس تعدّد معنى القول انطلاقا من تعدّد معنى الكلمة والمركّب (المنظور المعجمي)" (ص26 ص154) إلى النظر في "أسس تعدّد معنى الكلام انطلاقا من تعدّد المعاني النحويّة (المستوى النحوي)" (ص154 ص199)، فإلى استجلاء "أسس تعدّد معنى القول الضمنيّ الوضعيّ: مسألة الاقتضاء".(ص200 ص210)

في حين بُني الباب الثاني أسس تعدّد المعنى الماصدقي الوارد على المجاز(ص211ص288) الموصول بأسس البحث في تعدّد المعنى الما صدقي المجازيّ على فصلين الخيط الرابط بينهما يحكمه الانتقال من معالجة "الاختلاف في تعيين بعض المعاني أَواردة هي على المجاز أم على الحقيقة" (ص 221 ص 257) إلى محاولة تفسير "الاختلاف في تعيين المعاني الماصدقيّة المجازيّة". ( ص257 ص 288)

القسم الثاني: "أسس تعدّد المعنى التأويلي في اللغة من خلال تفاسير القرآن" (ص 295 ص 406) فقد ضمّ بابين، في الباب الأوّل تصدّت ألفة يوسف لبعض المعاني التأويليّة (من دوال المعاني التأويليّة (ص 298 ص24 3)، وأمّا الباب الثاني "من المعاني التأويلية وأسس تعدّدها" (ص 324 ص 395) فخصّصته للنظر في بعض المعاني التأويليّة وبيان أسس تعد تلك المعاني، وقد جاء الباب الأوّل "من دوال المعاني التأويلية" في فصلين اهتمّت الباحثة في أوّلهما"بدوالّ اللّفظ التأويليّة" (ص 298 ص 311) اهتمامها في ثانيهما"بدوالّ المعنى الماصدقي التأويليّة" (ص 311 ص 243). أمّا الباب الثاني "من المعاني التأويليّة وأسس تعدّدها" من القسم الثاني من الكتاب، فأقامته الباحثة على فصلين يشدّ أحدهما برقاب الآخر في نسق علميّ أساسه الترابط والتدرّج، وآية ذلك أنّ الفصل الأوّل ورد لدراسة بعض "أسس تعدّد المعاني التأويليّة وفق أصنافها" (ص327 ص 378 )،وأنّ الفصل الثاني أفرد لاستخلاص بعض "أسس تعدّد المعاني التأويليّة في ذاتها أي بقطع النظر عن أصنافها" ( ص 378 ص 395). يشتمل الكتاب على مقدّمة عامّة وخاتمة عامّة وعلى قسمين متفاوتين في مستوى الحجم (امتدّ القسم الأوّل من ص 23 إلى ص 294، وبذلك بلغت صفحاته 271 ص) (أمّا الثاني فامتدّ من ص295 إلى ص 398 وبذلك بلغت صفحاته ص 103)ولكنّهما متناسقان في ما يتّصل بالوظيفة، وفضلاً عن إيراد الباحثة فهرس المصادر والمراجع وفهرساً مفصّلاً لمحتويات المسائل المدروسة فقد أوردت فهرساً للآيات القرآنيّة وآخر للأعلام وثبتا مصطلحيّا ضبطت فيه أهمّ المفاهيم والمصطلحات المعتمدة في عملها مرتّبة وفق حروف الجذر، ممّا يكشف عن الصرامة العلميّة والدقة المنهجيّة ومقتضيات البحث الأكاديميّ التي أخذت ألفة يوسف نفسها باتّباعها على امتداد أطروحتها.

ثمّ إنّ قارئ هذا العمل قراءة متأنية لا يملك إلاّ أن يبدي - على الأقلّ - ملاحظتين تتّصل الأولى بعمق المادة العلميّة المعتمدة في معالجة إشكالات البحث وغزارتها ودقّتها واختلاف مجالاتها ومصادرها، وهو ما يدلّ على سعة اطلاع الباحثة على أمّهات المراجع الموصولة بمجال تخصّصها في لغات مختلفة وعلى تمرّسها بآليّات البحث الأكاديميّ الرصين، والملاحظة الثانية مرتبطة بإحكام بناء أركان هذا العمل الجامعيّ، رغم تشعّب المباحث وعمقها وتنوّعها، فعين القارئ لا تخطئ مدى ترابط الأقسام والأبواب والفصول والمباحث ومدى قدرة الباحثة على التدرّج في طرح المسائل المقترنة ببحثها وفي معالجتها معالجة تطبيقيّة بالاحتكام إلى القرآن الكريم وكتب التفسير الحافّة به والناشئة حوله، وقد أبدت في ذلك كلّه مهارة منهجيّة فائقة تجلّت في حسن تعاملها مع النصوص المدروسة بتفكيكها تفكيكا دقيقا في ضوء الرهانات المعرفيّة القائم عليها عملها كما تجلّت في مرونة المنهج الاستقرائيّ الذي وظّفته في التصدّي للمسائل المبحوث فيه، وهو منهج لم يسقط على مادّة البحث إسقاطا آليّا على نحو ما نجده في بعض البحوث الأكاديميّة التي تعلي من صوت المنهج والنظريّة على حساب النصّ، بل طبيعة النصّ المدروس- وهو القرآن الكريم وما اقترن به من مدوّنة تفاسير- هي التي استدعت المنهج الاستقرائيّ الناهض على الملاحظة والمقارنة والاستنباط والاستنتاج بالأساس.

ليس من الممكن الإتيان على جميع مباحث هذا الكتاب وما أفضت إليه من نتائج جزئيّة وكليّة تأليفيّة في تقديم موجز هذا شأنه، وليس من المتاح أيضا تفصيل كلّ الإشكالات الدائر عليها موضوعه؛ فالكلام عليها باب إن توزّع القول فيه طال، لذلك حسبنا في مثل هذا المقام أنّ نتحدّث عن الإشكالات الكبرى التي تقود هذا العمل وعن المفاهيم العلميّة الأساسيّة التي توجّهه وعن كبار النتائج التي أسلم إليها وربّما في مرحلة أخيرة عن الآفاق المعرفيّة التي يفتحها أمام أرباب الاختصاص وجمهور الباحثين، ومن هنا تتأتّى قيمة الأعمال الجامعيّة الجادّة والرائدة.

قام هذا البحث على إشكال مركزيّ منطلقه فرضيّة علميّة مفادها أنّ المعنى القرآنيّ الذي "تجسّم دون تقطيع المعنى واللّفظ ودون تعجيم التاريخ، هو ذاك الوارد في أمّ الكتاب: "وإنّه في أمّ الكتاب لدينا لعليّ حكيم" (القرآن الكريم، سورة الزخرف 43/4) أي في اللّوح المحفوظ: "بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ" (القرآن الكريم، سورة البروج 85 /21-22)". (ص 404)

والذي يترتّب على ذلك أنّ هذا المعنى الأصليّ بعد نزول القرآن على الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبعد اندراجه في التاريخ وتعجيمه وإضفاء المعنى عليه فهماً وتفسيراً وتأويلاً من قبل العقل البشريّ قدره التعدّد الذي اجتهدت ألفة يوسف في البحث عن أسسه وأسبابه جيئة وذهاباً بين القرآن الكريم وكتب التفسير الساعية إلى استكشاف المعاني الثاوية فيه.

والذي يعزّز من وجاهة الطرح الذي تتبنّاه الباحثة بشأن تعدّد المعنى في القرآن الكريم غياب باثّ هذا النص المقدّس الرسول محمّد بعد وفاته "غياباً ماديّاً مطلقاً" (ص 405)، لذلك نهض الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حياته بدور الوسيط بين السماء والأرض، باعتباره المتّصل البشريّ الوحيد بالباثّ، فقام "بتحديد بعض المعاني التي قصدها الله، فكانت معاني قليلة يقبل بعضها تعدّد المعنى" (ص 405)على حدّ تعبير ألفة يوسف، والذي عسّر على المفسرين عملهم في استجلاء معاني القرآن الكريم وتفسيرها اندثار أيّ اتّصال بباثّ القول الأصليّ؛ أي الله بعد وفاة الرسول، ويضاف إلى ذلك إشكال آخر يتّصل بمعاني الكلام وكيفيّة بناء مقاصدها، ومفاد ذلك "أنّ تحديد المتكلّم لمعاني كلامه لا يمكّن من تحديد المقصود فضلاً عن أن يغيب ذلك التحديد" (ص 405) كما تذهب إلى ذلك ألفة يوسف، وعليه اعتبرت صاحبة كتاب "تعدّد المعنى في القرآن" أنّ جميع تفاسير القرآن لا تعدو أن تكون معاني ثواني ممكنة "لا يعقل أنْ يدّعي أحدها موافقته للمعنى الأوّل" (ص 405)زد على ذلك أنّ المعنى الأصليّ الإلهيّ يبقى معنى منشوداً مستحيلاً لا يمكن أن يقال، وهذا المعنى الأصليّ ينضوي في نظريّة جاك لاكان Jacques Lacan في علم النفس التحليليّ إلى مدار الواقعيّ الذي هو المحال الذي لا تدركه الحواسّ،"وهو الغائب دائما عن التمثيل الذي يحاول الإحاطة به" (ص 406)على نحو ما ترى ألفة يوسف، وإذا كان ذلك على الشكل الذي بيّنته الدارسة جاز القول بأنّ المعنى الذي تتحدّث عنه كتب التفاسير، إنّما هو معنى تمثيليّ رمزيّ يستنبطه قارئ النصّ القرآنيّ، ومن ثمّ ليس هو المعنى الإلهيّ الأصليّ، بل هو تمثيل رمزيّ له عبر اللّغة، وتبعاً لذلك فالمعنى محكوم بالضرورة بالتعدّد، وهذه الحقيقة العلميّة متى أسقطها بعض المفسّرين قديما وحديثا من اعتباراتهم أثناء تدبّرهم المعنى في القرآن الكريم عملوا على "نفي الشرخ القائم بالضرورة بين الواقعيّ والرمزيّ وذلك بتصوّر مستحيل لقول يعبّر عن الواقع تعبيرا مطلقا وبتصوّر مستحيل لمعنى واحد مطلق ينشئه متكلّم ويمتلكه متقبّل".(ص 406)

هكذا يقوم هذا الكتاب على جملة من الإشكالات الدقيقة أصلها في اللّغة وفرعها في الحضارة والفكر، فقضيّة المعنى في علاقتها بالمتكلّم والقول بمختلف العناصر المرتبطة به من أهمّ القضايا المثارة اليوم في الدراسات اللّسانيّة والتداوليّة والأدبيّة والحضاريّة، فاهتمام يوسف بالمعنى يندرج في إطار تجديد دراسته وإعادة النظر فيه في ضوء المفاتيح العلميّة الجديدة المقترحة من علوم اللّسان وفلسفة اللّغة ونظريّات الخطاب وعلم النّفس التحليليّ والاتّجاه العرفانيّ. لذلك اقتحمت الباحثة غمار هذا الموضوع الشائك والمحرج في الثقافة العربيّة الإسلاميّة – أي موضوع تعدّد المعنى في القرآن- يحدوها الأمل في إيجاد تفسير علميّ مقنع لما حفلت به بعض كتب تفاسير القرآن من تعدّد للمعنى يسعى شقّ كبير من علماء الدين قديماً وحديثاً إلى إنكاره أو تجاهله. وممّا يدلّ على طرافة موضوع المعنى وعسره وجدّته في البحث العلميّ المعاصر في ميدان اللّغات والآداب والفنون والإنسانيّات تنظيم كليّة الآداب بمنّوبة سنة 1999 ندوة علميّة دوليّة عنوانها "المعنى وتشكّله" لتدارس هذه المسألة المهمّة في حياة الإنسان طالما أنّه الكائن الوحيد الذي يتمثّل الكون تمثّلا لغويّا معبّراً عن ذلك التمثّل بكلام حمّال لمعان مختلفة منها ما يساق على الحقيقة ومنها ما يساق على المجاز. فالباحثة واعية بخطورة الموضوع الذي تعالج وبقيمة الرهانات المعرفيّة والفكريّة التي تسمو إليها وتهفو إلى بلوغها في هذه الرسالة الجامعيّة، ولقد تزوّدت من أجل ذلك بجملة من المفاهيم والمنطلقات جعلتها حجر زاوية في عملها.

بدأت ألفة يوسف في تشقيق مبحث المعنى بالنظر في مفهوم العلامة اللّغويّة بوصفها الإطار الأكبر الذي يتشكّل فيه المعنى في أيّ لغة من اللّغات، وقد ضبطت وفق أحدث النظريّات اللّسانيّة في تعريف العلامة ثلاثة عناصر أساسيّة هي جما ع العلامة على النحو الآتي:

العنصر الأوّل في العلامة هو المستوى الظاهر من القول ويدخل مجال التّعبير.

العنصر الثاني هو المستوى الضمنيّ للقول أي إنّه ما يعبّر عنه القول ويدخل مجال المعنى.

العنصر الثالث هو ما يحيل عليه القول في الواقع ويدخل مجال المرجع.

وتتبنّى صاحبة هذا الكتاب في نهاية المطاف تعريف بيرس pierce  للعلامة، والذي يختزلها في ثلاثة عناصر، أوّلها الممثل بوصفه الذات المحسوسة التي تمثّل أي إنّه في مجال القول العنصر الظاهر المجسّم حسيّا في الصوت والكتابة، وثاني العناصر الموضوع، وهو ما تقوم مقامه العلامة؛ أي ببساطة بعض الواقع الذي تدلّ عليه العلامة اللّغويّة، وآخر عنصر هو المفسّر الذي من شأنه أن يزيل اللبس والخفاء. فنحن اقتحمنا الآن مجال المعنى عبر المفسّر، باعتباره الفكرة التي تولد في الذهن، فكلّما فسّرنا علامة لغويّة بإيجاد معناها وجدنا أنفسنا نقدّم علامة جديدة ليست لغويّة بالضرورة.

وأبرز خصائص المعنى على نحو ما ذكرت ألفة يوسف"أنّه غائب فهو ليس ملموساً ولا ظاهراً إذ لا يظهر مباشرة، بل عبر علامة أخرى"، وتخرج الباحثة من دائرة المعنى ما يترتّب على الكلام من عمل تأثير بالقول (acte perlocutoire) (ص 9)كأنْ نقول: "التدخين مضرّ بالصحّة" فيعمل المخاطب على الإقلاع عن التدخين، فهذا العمل المترتّب على كلامنا لا يدخل في نطاق المعنى؛ فالمعنى كامن في القول في حدّ ذاته أو في القول المضمّن فيه، وأمّا العمل المتولّد منه في الكون الخارجيّ أيّ غير اللغويّ فليس من المعنى في شيء. ومن ثمّ لا يخرج المعنى في أيّ قول عن المعنى الأصليّ في أصل الوضع وعن المعنى الثاني المنجز وفق المقام والعلاقة بين المتكلّم والمخاطب. ولمّا كان للمعنى عناصر متعدّدة مختلفة سعت الباحثة إلى حدّها ممّا مكّنها بعد ذلك من تصنيف المعنى إلى أقسامه التي ستقيم عليها يوسف الخطوط الكبرى والصغرى لبحثها في تعدّد المعنى في القرآن على الشكل الآتي:

المعنى الماصدقي: وهو المستند الواقعيّ الذي لا بدّ من معرفته لفهم العلامة، وهو"مصطلح منطقيّ يعني مجموع الموضوعات التي يدلّ عليها المعنى أو الأفراد الداخلين تحت صنف أو كليّ". (ص 9)

المعنى التأويليّ:"يشمل كلّ ما يستتبعه القول إذا ما استثنينا المعنى الماصدقي، فتدخل ضمنه كلّ دلالات المعنى على شخص المتكلّم أو على إطار الكلام... وجميع الأقوال قابلة، لأن يكون لها معان تأويليّة. (ص 12). ومن ثمّ "لا يخرج أيّ معنى لأيّ قول لغويّ عن صنفي لمعاني هذين" (ص 12)، فعلى هذه المفاهيم المركزيّة بنت الباحثة دراستها لتعدّد المعنى في القرآن، فهي تسير في أطروحتها على منهج واضح وتفيد من جهاز نظريّ ومفهومي دقيق ممّا يسّر لها الخلوص إلى نتائج مهمّة بقدر ما عملت على مراجعة بعض الأفكار الشائعة والمسلّمات التي يدين بها رجال الدين وبعض المفكرين المسلمين فتحت أمام الباحثين والمجتهدين من رجال الفكر مسالك جديدة في التعامل مع المعنى في شتّى النصوص وفي مختلف ضروب الخطاب.

ولقد أثبتت الباحثة في القسم الأوّل من كتابها أنّ أسس تعدّد المعنى الما صدقيّ تختلف وفق حضور المعنى في السّياق والمقام أو غيابه. فضبطت أسّين عند حضور المعنى في السياق على هذا النحو:

- وجود أكثر من سياق قابل لأن يكون مفسّرا للقول والاختلاف في السياق المفيد منهما، ويمكن أن نسم هذا التعدّد بالانتشاريّ.

- الاتّفاق في السياق المفيد والاختلاف في معناه؛ أي تعدّد معنى السياق المفسّر، وهو تعّدد بنفس أسس تعدّد معنى القول، ويمكن أنْ نسم هذا التعدّد بالموضعيّ.

وتعتبر غياب المعرفة المشتركة بالمقام سواء أكان عامّا أم خاصّا. وتذهب إلى أنّ من ضروب تعدّد المعنى ما لا علاقة له بمعرفة المقام من أسس تعدّد المعنى الماصدقيّ للقول الواحد، فيستند في مثل هذه الحال إلى دلالة القول بالوضع على أكثر من معنىواحد "أي يستند إلى الاشتراك متجسّماً في الكلمات أو في التراكيب أو في المعاني النحويّة، غير أنّ هذه المعاني قائمة بالقوّة خارج القول، ويظلّ المقام هو العنصر الذي يحدّد من تلك المعاني الوضعيّة بعضها التي قد يفيدها القول". (ص 293)

وقد قاد النظر في القسم الثاني، الباحثة إلى اعتبار المعنى التّأويليّ متحقّقاً هو أيضا ضمن علاقة استدلال "ولكنّها تقوم بين القول بلفظه ومعناه الما صدقي من جهة ومعناه التأويليّ الممكن من جهة أخرى" (ص 396). ثمّ قادها تدبّر أبرز دوالّ المعاني التأويليّة وبيان بعض أسس تعدّد هذه المعاني إلى استخلاص"أنّ سائر المعاني التأويليّة لا تكون إلاّ إمكاناً يبحث في سبب القول ويعبّر عن تعدّد وجهات النظر إلى الموضوع الواحد وتعدّد إمكانات تعليقه بمواضيع أخرى إن آنيّا أو زمانيّا". (ص 397)

وملاك الأمر بالنسبة إلى ألفة يوسف، أنّ وجود معنى القرآن الأصليّ مجرّد افتراض وأنّ فهمنا للوح المحفوظ وأمّ الكتاب ليس سوى إمكان، وعليه فاللفظ"عاجز عن تمثيل المعنى الأوّل قبله فضلا عن تمثيل المعنى الأصليّ". (ص 406)

إنّ المزّية في هذا العمل الأكاديميّ ليست كامنةً في النتائج المهمّة المتوصّل إليها بخصوص موضوع تعدّد المعنى في القرآن الكريم، بقدر ما هي ماثلة في طرح الأسئلة وإثارة القضايا وفتح آفاق جديدة أمام الباحثين في التعامل مع مسألة المعنى في النصوص المقدّسة وفي سائر النصوص دينيّة كانت أو لغويّة أو أدبيّة أو فلسفيّة إلخ... ومن خصال هذا التعامل التحلّي بالموضوعيّة العلميّة والاستناد إلى جهاز معرفيّ دقيق يبحث في أسباب تعدّد المعنى في القول من منظور لغويّ ألسنيّ معاصر، فحسب ألفة يوسف في هذا الكتاب أنّها استثارت تفكير الباحثين ودعتهم إلى مراجعة بعض المسلّمات والأفكار المتزمّتة وحفّزتهم على تحديث المنهج والرؤية في معالجة قضيّة المعنى وما أدراك ما المعنى، هذا المتصوّر الذهنيّ الذي يستعصي على الضبط والتحديد، فيجافي الصواب من يدّعي أنّه أمسك بالمعنى الأصليّ المقصود في أيّ قول ومن يزعم بأنّه يعلم بمضمونه علم اليقين على النحو الذي صدر عن قائله الأوّل، فما بالك ببعض علماء الدّين الذين يدّعون أنهم أقدر الناس على النفاذ إلى المعنى القرآنيّ الأصليّ الإلهيّ وأعينهم في غطاء عن الحديث النبويّ الشريف الذي يلحّ فيه الرسول على أنّ القرآن الكريم يأتي يوم القيامة بكرا كأن لم يفسّره أحد من قبل، وفي هذا دليل قاطع على نسبيّة معانيه وتعدّدها مثلما فهمها العقل البشريّ.

محمد ادريس


 
المسألة الجندريّة عند ألـــفـة يــوســف: نحو سرديّة نسويّة جديدة

 

لعلّ أوّل ما يسترعي الانتباه في تناول ألفة يوسف المسألة الجندريّة هو الموقع الذّي تزاول منه هذه القضيّة، فهي لا تضع نفسها في موضع «المنافحَة» عن المرأة و«الدّفاع» عن حقوقها كما يجري في الخطاب النّسويّ الشّائع والتّقليديّ فلا تقع في جموح «الحماسة النّضاليّة» المانعة من تعميق النّظر إلى الأشياء ولا يأتي خطابها مضمّخا بإدانة «الهيمنة الذّكوريّة» الفجّة والإنحاء عليها أو باستدرار العطف على النّوع الواقع تحت الهيمنة والرّثاء لحاله.

إنّ خطابها لا يصدر عن هذا الموقع النّضاليّ الكلاسيكيّ، بل إنّه خطاب متدبّر محلّل مفكّر باحث عن الحقيقة ، لأنّها تضع مسافة بينها وبين موضوعها وتبسط القضايا وتعالجها مستندة إلى العلم وحده متسلّحة بالبحث الموضوعيّ، مستأنسة دون شكّ بمناهج في القراءة وبمسالك في التّحليل مستفادة من حقول معرفيّة متنوّعة دون الوقوع في الصّداميّة ودون الإيحاء بأنّ في المسألة صراعا ومنازلة.

وهي تنتهي من قراءتها لمنزلة المرأة في القرآن والسّنّة ولمكانتها في المجتمع إلى أنّ استنقاص المرأة ليس حقيقة قرآنيّة وإنّما هو واقع شكّله عاملان رئيسيّان:

  • أوّلهما الفقه والتّفسير وطرائق تعاملهما مع النّصّ الدّينيّ
  • ثانيهما العقليّة الذّكوريّة واستيهامات المجتمع الأبويّ

وعلى هذا فّإنّ كثيرا من الأحكام والآراء التّي باتت تُعتبر اليوم أحكاما باتّة ومواقف ثابتة هي أحكام وآراء شكّلها فهم الفقهاء والمفسّرين للنّصّ الدّينيّ ونسجتها السّياقات التّاريخيّة والثّقافيّة والسّياسيّة والمعرفيّة التّي تمّ في إطارها تأويل النّصوص وتفسيرها وليست حقيقة قرآنيّة منتهية ومغلقة وصريحة كما يُقال.

ومن ناحية أخرى فإنّ عقليّة ذكوريّة تسود مجتمعاتنا الأبويّة كرّست أفكارا مسبقة عن المرأة تكوّنت على مرّ العصور من تصوّرات غير علميّة ومركّبات نقص واستعلاء وصنعت تاريخا من الهيمنة والتّسلّط أخلّ بجوهر العلاقة بين النّوعين.

 وهو اختلال نجده في كتاب وليس الذّكر كالأنثى، كتاب تُفضي فيه بغيّ – لا نظنّها إلّا متَخيَّلة مصطنَعة – للمؤلّفة بجوانب من سيرتها وعلاقاتها الجنسيّة ومغامراتها على نحو يُشبه «الاعترافات»، فتكون عناصر تلك العلاقات المتنوّعة مادّة للقراءة والتّحليل النّفسيّ ومدخلا إلى رصد ملامح واقع ثقافيّ ونفسيّ ولسانيّ يكشف عمق التّباين بين الهويّة الذّكوريّة والهويّة الأنثويّة.

إنّنا إزاء سرديّة نسويّة جديدة تقوم على حفريّات في ضمنيّات النّصوص الدّينيّة وفي مضمرات الجنسانيّة  تنكشف بها خبايا الذّكوريّ والأنثويّ الثّاوية في وعينا وفي لاوعينا، وتتأكّد في الوقت نفسه محوريّة اللّغة والثّقافة في تشكيل الهويّة الجنسيّة التّي لا توجد إلّا مرتهنة بالهويّة الجندريّة.

الحبيب الدّريدي

 


 
وجه الله ينتقل بي من النسبي إلى المطلق لأبدأ تجربة التصوف

ألفة يوسف هي كاتبة وباحثة تونسية مختصة في اللغة العربية واللسانيات اشتهرت بمقاربتها النقدية للفكر الإسلامي، أصدرت عدة مؤلفات، في هذا الجانب، آخرها كاتبها الصادر منذ أيام "وجه الله: ثلاثة سبل إلى الحق" وهو مؤلف جديد يدخل بها نحو تجربة التّصوف. حول هذا الكتاب، وعن مقاربتها في قراءة النص الديني، وقضية التأويل، ونقاط أخرى، حاور "ألترا تونس" ألفة يوسف في اللقاء التالي:


  • صدر كتابك الجديد "وجه الله :ثلاثة سبل إلى الحق" منذ أسبوعين في العالم العربي ولكن منذ أيام في تونس. ماهي أهم مميزات الإصدار الجديد؟ ولماذ صدر في العالم العربي قبل تونس؟

 الكتاب صدر في العالم العربي قبل تونس لأن الناشر الذي تعاملت معه وهو "دار مسكلياني للنشر" يعمل مع المعارض العربية وهو شأن أغلب الناشرين اليوم، ولذلك صدر الكتاب في المعارض في الخارج ثم جاء بعد ذلك إلى تونس.

أنا أعتبر هذا الكتاب نهاية وبداية في الآن نفسه، هو نهاية لأنه تقريبًا آخر المطاف مع التجربة الدينية أو قراءة الشأن الديني التي شرعت فيها منذ أكثر من عشرين سنة بداية من كتاب "الإخبار عن المرأة في القرآن والسنة" وصولًا إلى "ناقصات عقل ودين" و"حيرة مسلمة" وغيرها من المؤلفات. وهو أيضًا النهاية لأنه بلغ حد تجاوز القراءة التأويلية والوصول إلى القراءة الروحانية الصوفية وقد بدأت بوادرها سابقًا في كتاب "شوق، قراءة في أركان الإسلام".

ألفة يوسف: كتابي الأخير "وجه الله: ثلاثة سبل إلى الحق" هو تقريبًا آخر المطاف مع التجربة الدينية أو قراءة الشأن الديني التي شرعت فيها منذ أكثر من عشرين سنة 

و لذلك الكتاب هو نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة تركز أساسًا على البعد الروحاني في علاقتنا بالألوهي والحياة، وفي هذا يلتقي الصوفي بما نجده اليوم وما يعرف بالتنمية البشرية والاهتمام بتحسين كيفية الحياة.

والكتاب كما عنوانه يقدم ثلاثة سبل إلى الحق في أساليب واضحة ودقيقة بلغة مبسطة نحو ما ما يسميه الفلاسفة الكبار والمتصوفة الروحانيون السكينة العميقة والاطمئنان أو السعادة وهي: طريق العمل، وطريق الرضا وطريق الذكر.

وما اعتبره طريفًا في الكتاب والأمر للقراء طبعًا هو أن كتب المتصوفة عسيرة على الفهم بالنسبة إلى القارئ العادي الذي لا علاقة له بالتصوف، لكن هذا الكتاب بالعكس يمكن أن يقرأه أي شخص لأنه يتضمن تقريبًا وتبسيطًا للمفاهيم ومفاتيحًا تساعد الإنسان في تعامله الوجودي مع حياته.

  • من كتابك "الإخبار عن المرأة" وصولًا إلى إصدارك "وجه الله: ثلاثة سبل إلى الحق"، ما الذي تغير في كتابات ألفة يوسف؟

في الحقيقة كل لحظات حياتنا تشي بتغيير ما، فمن لا تتطور تجربته ومن يبقى مكررًا لما قاله منذ عشرين سنة يعبر عن مشكل ما في شخصيته أو نفسيته.

تعاملي مع الشأن الديني وهو ما يعرفه المقربون مني وقرائي الأوفياء ليس تعاملًا محترفًا، أنا امرأة أطرح الشأن الديني من منظور ذاتي بمعنى في قضايا تهمني شخصيًا لا أتعامل تعامل الباحث المجرد وإن كانت لي أطروحة دكتوراه بعنوان "تعدد المعنى في القرآن" وهي مدققة لسانية أكاديمية.

منطلق أبحاثي الأساسية في الشأن الديني تساؤلات شخصية وجدية وفكرية، وتطورت بعد أن تعاملت مع النص الديني من منظورات مختلفة أولًا من خلال كتابي "الإخبار عن المرآة في القرآن والسنة" وهو تعامل من منظور تاريخي سياقي قائم على الفكرة الشائعة التي بدأت مع أركون والجابري وغيرهما التي تدعو لقراءة النصوص الدينية في سياقها التاريخي، وهي فكرة ما تزال مهمة إلى اليوم.

ألفة يوسف: ربما يجسم التصوف في تجربتي الشخصية مرورًا من مرحلة النسبي إلى مرحلة المطلق

ثم تعاملت مع النص الديني تعاملًا لسانيًا، وهو اختصاصي الأصلي، من خلال البحث في الدلالات المتنوعة للتراكيب والكلمات والمعاني للآيات وهذا ما تجسد في كتاب "تعدد المعنى في القرآن". وبعدها تعاملت مع الشأن الديني تعاملًا من منظور التحليل النفسي وهو ما تجلى في كتاب "ناقصات عقل ودين" وكتابي الصادر باللغة الفرنسية "Le Coran au risque de la psychanalyse" وبالمناسبة سيصدر قريبًا مترجمًا إلى العربية، وهو عن التعامل مع النص الديني من منظور التحليل النفسي انطلاقًا من مفاهيم الشوق والمحبة وغيرها من المفاهيم.

أعتقد أن كل هذه التعاملات ضرورية في حياة الإنسان لكن مع احترامي لها لا تقدم إجابة شافية. بالنسبة إلى المسلم، هي تقدم إمكانات لكنها تظل إمكانات قابلة لأن تنقضها إمكانات أخرى. مثلًا، يمكن أن يأتي شخص متطرف أو متشدد أو حتى ينتمي إلى أطروحات "داعش" ويقول لك مثلًا أن النص الديني يسمح بقتل المرتد أو الرق ويأتيك بآيات موجودة وتناقشه بالمنظورات التي ذكرتها سابقًا، أي بالسياق التاريخي أو اللساني اللغوي، ولكن في كل الأحوال لا تقدم إجابة نهائية أو شافية.

وقد تجسمت كل هذه الإمكانات التفسيرية خاصة في كتاب "والله أعلم" الذي صدر في البداية في سلسلة كتب صغيرة ثم بعد ذلك تم جمعها في كتاب كبير، وهو يقوم على محاورات بين شخصيتين: واحدة تتبنى قراءة حرفية للنص الديني وأخرى تتبنى قراءة ما يسمى بتنويرية أو حداثية. يبيّن الكتاب في النهاية أن لكل شخص وجهة نظر فنحن في مجال النسبية في حين أن الانسان لا يرتاح إلا في مجال المطلق وهذا ما وفره لي أو في طريقه إلى توفيره إليّ مجال التصوف. ربما يجسم التصوف في تجربتي الشخصية مرورًا من مرحلة النسبي إلى مرحلة المطلق.

couv وجه الله ghm

  • تعاملك مع النص الديني جعل البعض يتهمك بالإلحاد وأنت تؤكدين دائمًا أنك مؤمنة مسلمة. ما تعليقك؟

حقيقة، لا يمكن الإجابة عن هذا القول لأن الإيمان مسألة فردية وواضحة، وأنا أقولها لأنني لا أجد أي حرج في الإقرار بمعتقد هو معتقدي ولا أفرضه على أحد. لكن المشكل هو أن الذين يتهمون غيرهم بأي تهمة من التهم ولا سيما التكفيريون عاجزون عن قبول وجود  الآخر، وهم عاجزون عن قبول إمكان مختلف لرؤية الكون وهذا منطلقه عادة هشاشة نفسية لديهم وعقد تجعل الإمكان المختلف يزعجهم لأن هذا الإمكان يقدم لهم صورة ممكنة مغايرة لغير ما هم عليه والحال أنهم يريدون من يقول لهم أنتم فقط تمتلكون النظرة الصحيحة.

ألفة يوسف:  أتلقى أحيانًا تهجمًا من اللادينيين لأن مسألة عدم قبول الآخر ليست مرتبطة بانتمائك إلى دين وإنما مرتبطة بتركيبة نفسية معينة 

لهذا ربما ما أزعجهم في كتاباتي هو التسامح وهي كلمة فقدت الكثير من معناها، إذ يقدم التسامح قراءة ويدحض القراءة الأخرى لكنه لا يدعو إلى قتل صاحب القراءة المختلفة ولا يدعو إلى تكفيره. هؤلاء تعودوا على منطق الإقصاء، ويخبرنا تاريخ المسلمين منذ الفتنة الكبرى عن التناحر بين الفرق والمذاهب وسجن العلماء والفلاسفة وتعذيبهم، بمعنى ما يحصل اليوم ليس بجديد. وما أتت به أو حاولت أن تقدمه كتاباتي في تجربة صغيرة ومتواضعة هي إبراز صورة أخرى للإسلام وهي صورة ناصعة مشرقة.

ولكن أريد أن أقول أيضًا إنني ألاقي أحيانًا تهجمًا من اللادينيين لأن مسألة عدم قبول الآخر ليست مرتبطة بانتمائك إلى دين وإنما مرتبطة بتركيبة نفسية معينة قد تجدها لدى المسلم أو المسيحي أو اليهودي أو اللاديني .

  • ترين أن النص الديني قابل لأكثر من قراءة؟ فهل هي إعادة تأويل من أجل التأويل أم تأتي انسجامًا مع متغيرات الواقع؟

سؤال ذكي جدًا. لا أرى في الحقيقة أن كل نص قابل لأكثر من تأويل ولكن ذلك هو واقع كل نص لغوي، فليس لنا مهرب. كان علي ابن أبي طالب يقول القرآن "حمال أوجه" وإن "النص لا يتكلم ولكن يتكلم به الرجال"، كان يوجد شعور منذ البداية أن النص لا يتكلم وأنه قابل لتأويلات شتى. وبالتالي، إن التأويل هو قدر النص وهذا ليس فيه شك.

 لكن يبقى السؤال كما قلت، هل نسقط تأويلًا على النص بسبب أننا اليوم في عصر حديث وعلينا أن نجد حلولًا لبعض المعضلات كمسألة الرّقّ التي لا يلغيها النص بصفة مباشرة والحال ألغينا اليوم الرق في الدول المسلمة ونتحدث عن دين يقوم على المساواة بين البشر؟

ألفة يوسف: أعتقد أن المعضلة، في الحقيقة، بين النص والواقع هي معضلة وهمية فلا وجود لشخص يقرأ نصًا خارجًا عن سياقه و التأويل هو ترسيخ لقراءة لسانية لنص مقدس ضمن إطار تاريخي مخصوص

أعتقد أن المعضلة، في الحقيقة، بين النص والواقع هي معضلة وهمية، فلا وجود لشخص يقرأ نصًا خارجًا عن سياقه يعني مثلًا لا يمكن أن يفكر الناس في القرن الأول أو الثاني للهجرة في الأنترنت، وهذا يدخل في إطار اللامفكر فيه. في نفس السياق، لا يمكن أن يفكر الناس في اعتبار الرجل والمرأة والطفل متساوون في الحقوق والواجبات في إطار ما يسمى بحقوق الإنسان، فهذا مستحيل. وقد وضح أركون جيدًا مفهوم اللامفكر فيه من جهة وما لا يمكن التفكير فيه من جهة أخرى.

اذًا لأعود إلى التأويل، أقول إن كل من يؤول فهو يؤول في سياقه التاريخي. عندما تقدم ألفة يوسف قراءات ممكنة فهي تقدمها لأنها تحيا في سياق زمني وتاريخي معين، وأكيد بعد مائة سنة سيؤول الناس النص بالاعتماد على ما هو موجود وقتها. فالقارئ أو المؤول لا يمكن أن يكون خارج زمنه. لذلك، التأويل ليس للتأويل في ذاته، وإنما هو ترسيخ لقراءة لسانية لنص مقدس ضمن إطار تاريخي مخصوص.

  • تحدثت في أكثر من مرة عن التأويلات ودورها في إذكاء الصراعات لكنك في الوقت نفسه تقدمين وتدافعين عن تأويلات جديدة للنص. ألا يبدو هذا متناقضًا؟

التناقض صحيح في حالة إن كنت أقر أن التأويل الذي أقدمه هو الصحيح. هناك فرق بين أن يدلي شخص بدلوه في مجال التفسير والتأويل ويقدم قراءته مع احترام القراءات الأخرى وشخص أخر يقدم قراءة يقدمها أنها السبيل الوحيد لفهم النص.

ألفة يوسف: نحن نكتب مثلما نحيا ونفعل ما نفعله ولا يمكن أن نحكم مسبقًا أبدًا على نتائج أفعالنا

لذلك، أعتبر أن الكتاب الفارق في مسيرتي هو "والله أعلم"، فقد أردت أن أبين، من خلال أمثلة دقيقة أو ما يسمى باللسانيات التطبيقية في الحديث عن الخمار وعن الخمر وقطع يد السارق وغيرها من المواضيع، كيف يمكن فعلًا أن نجد شخصين كل منهما يقدم تاويلًا وحججًا مقابلة لبعضها البعض دون أن يصلا في نهاية الأمر إلى العنف، وحرصت أن أبين أنه بإمكاننا أن نختلف ولكن المهم أن نقتنع بأن رأينا أو تأويلنا هو إمكان من ضمن إمكانات أخرى.

  • تقولين دائمًا أنك تكتبين آراء شخصية فردية، فهل نكتب لنغير أم نكتب لمجرد نشر مواقفنا؟

سيتضح الأمر في كتابي الجديد. أنا لا أؤمن كثيرًا بالشخص الذي يغير قصدًا، هو مجرد وهم بالنسبة لي فنحن نكتب مثلما نحيا ونفعل ما نفعله ولا يمكن أن نحكم مسبقًا أبدًا على نتائج أفعالنا.

سأعطيك مثالًا بسيطًا، عندما كتبت "حيرة مسلمة"، وهو ليس أقرب كتبي إلى قلبي، لم أكن أتصور أن يلقى ذلك الصدى في تونس وخارجها وهو اليوم أشهر كتبي. فما نكتبه لا يمكن أن نحكمه وسأبسط ذلك بمثال آخر كأن تضع ابنًا او ابنة وتقول "أريد أن يكون كذا ويفعل كذا ويغير العالم"، يمكن أن تبرمج كما تشاء لكن الله تعالى هو الذي يفعل ما يشاء. فأنا لا أسعى إلى التغيير بكتبي لكن قد تغيّر بما لا أحكمه، فأنا أكتب فقط وأترك للقارئ وللتاريخ مهمة أن يفعل كل منهما ما يشاء بهذه الكتابات المتواضعة.

  • دائما نتحدث عن الإسلام التونسي المعتدل، هل تؤيدين هذا التوصيف؟

من المنظور التاريخي، يمكن أن نعتمد هذا التوصيف وهو ليس توصيفًا كاذبًا ولكن مشكلته أنه وقع تسييسه لاسيما في مرحلة بن علي لدرجة أنه فقد تأثيره البراغماتي والمعرفي في التونسيين وفي غيرهم.

صحيح أننا في حياتنا اليومية خاصة منذ مائة سنة لم يكن تمثلنا للإسلام قائمًا على التشدد، ولكن لا يجب أن نقول إن هذه قاعدة عامة. الأمر ليس جينيًا مرتبطًا بالتونسيين بل يرتبط بمراحل تاريخية معينة وبأنواع التفاعلات السياقية في التاريخ.

ألفة يوسف: أفضل أن نتحدث لا عن الإسلام المعتدل ولا عن الإسلام المتشدد بل عن الفكر التنويري وهو ليس فكرًا خاصًا بتونس

وأعتقد أن الإسلام المعتدل جاء رد فعل على الإسلام المتشدد. لهذا، أفضل أن نتحدث لا عن الإسلام المعتدل ولا عن الإسلام المتشدد بل عن الفكر التنويري وهو ليس فكرًا خاصًا بتونس بل هو حركة إصلاح قامت بعمل جبار نجدها لدى ابن رشد، والفرابي، وابن عربي وغيرهم. هو فكر يقوم على التجميع لا على الإقصاء.

وأنا أرى أن كلمة "معتدل" مرتبطة بالطقس وهي مزعجة، وأفضل الفكر التنويري لأن النور يجمع، ولأن الله نور السماوات والأرض، وكلنا تجمعنا هذه الحياة وتجمعنا هذه الروح التي نفخها الله تعالى فينا. وأن نتجمع لا يعني أن نكون متشابهين بل معناه أن نتعايش معًا في إطار اختلافاتنا وتمثلاتنا وألا يسعى أحد منا إلى فرض موقفه على الآخر.

  • المشروع الحداثي هل لا يزال هاجسًا لدى الشعوب العربية؟

سؤال مهم جدًا في هذا العصر. يبدو أنالمشروع الحداثي فقد تأثيره لدى الشعوب العربية التي لم تجد بعد طريقها لفرض رؤيتها لهذا العالم، وحتى التغييرات التي نراها اليوم للأسف ليس للعرب فيها نصيب إلا بشكل ضئيل.

ولكن وإن كان يحيا العرب اليوم على هامش التأثير المباشر في العلوم الاقتصادية والتطورات التكنولوجية، فهم باستفادتهم من هذه التطورات يتغيرون ومن ذلك دوروسائل التّواصل الاجتماعي في تغيير قناعات الناس. فبقدر ما نجد في العالم العربي تصورات تقليدية متخلفة آتية من القرون الوسطى، نجد أيضًا شبابًا متحررًا من التقاليد بفكر جديد متأثر مثلًا بالسينما العالمية، لذلك أعتقد أنه من الإجحاف القول إننا خارجون عن الحداثة. نحن خارجون عن التأثير في العالم ولكننا شئنا أم أبينا، نحن نحيا الحداثة وحتى ما بعد الحداثة غصبًا عنا.


 
التعامل مع الإسلام من خارج منظومته جفاف معرفي

 
تجدّد الباحثة التونسية ألفة يوسف في حوار مع "قنطرة" التشديد على فشل فقهاء المسلمين في التركيز على البعد الروحاني الفردي للشعائر الدينية، مشددة في ذات الوقت على تمسّكها بخيار التعامل مع النصوص المقدسة من داخل المنظومة الدينية وليس من خارجها، وتحدثت عن تناغم وتكاتف بين دور رجال الدين ورجال العلم في أزمة فيروس كورونا. حاورها من تونس الصحافي إسماعيل دبارة.

قنطرة: لنبدأ من حديث الساعة، أي جائحة كورونا التي تغيّر أولويات الشعوب على نحو طفرويّ غير مسبوق. هل خلصت تأمّلاتك إلى أمر ما في هذا الصدد؟

ألفة يوسف: هذه الجائحة تغيّر بلا شكّ أولويات الشعوب، وهي ككل الحوادث المفاجئة التي تحصل في حياة الانسان تدفعه إلى أن يتأقلم معها بشكل مختلف.

مشكلة الانسان عموما وهنا أتجاوز الاختلافات العرقية والثقافية والتاريخية، أنه يتصور نفسه حاكما للكون، ويعتقد أنه هو الفاعل الوحيد فيه، وينسى أنه في جوهره موضوع قبل أن يكون ذاتً.

إنّ ما يجري من أحداث مفاجئة كالحروب، أو الزوابع والأعاصير وكل تحركات الطبيعة كتسونامي منذ سنوات، أو هذه الجوائح التي تمر على البشرية من حين لآخر، كلها تزعزع ذات الانسان وتذكره أنه ليس الفاعل الأول في الكون.

في المدة التي تدوم فيها هذه الأزمة، نجد أن الانسان يغيّر أولوياته ويتذكر - ولو بشكل غير واع- ضعفه وعجزه أو بعبارة فلسفية يستعملها كثيرا التحليل النفسي "يتذكر الإنسان حدوده".

اللطيف أنه ما إن تمر هذه الأزمات حتى يعود الانسان مرة أخرى الى غطرسته وصلفه ووهم اعتقاده أنه هو "الفاعل الأوحد في الكون"، إلا ما رحم ربك من الحكماء الذين فهموا أن الانسان مجرّد دور عابر في هذه الحياة.

قنطرة: فيما يتعلّق بتأثير الجائحة على العبادات، هل تؤيدين الرأي القائل بأن الممارسة في الاسلام باتت تنحو أكثر نحو الفردانية؟ أي أن البعد "الجماعي" في الصوم والحج والزكاة والصلاة، تراجع كثيرا بفعل التباعد الاجتماعي؟

ألفة يوسف: في مرحلة ما بسبب التباعد الاجتماعي هنالك جنوح نحو الفردانية، لكن الفردانية العميقة ليس متصلة بالبعد عن الناس ماديا أو القرب منهم.

ذكرتم بعض الشعائر، مثلا الصلاة يمكن أن تكون مع الجماعة، ويكون الانسان فيها واعيا بأن خشوعه مع الله هو خشوع فردي.

السؤال الذي يطرح حول هذه العبادات هو إلى أي مدى نستطيع أن نحقق عمقها الفردي بغض الطرف عن سياقها الفردي أو الجماعي، فالبعد الروحاني فرديّ أو لا يكون، ولذلك أعتقد أن من الأمور التي فشل فيها أغلب المفكرين عبر تاريخ الاسلام هي التركيز على البعد الروحاني الفردي وتوعية المسلم واقناعه بأن الشعائر ليست هدفا في ذاتها انما هي وسيلة لبلوغ راحة وطمأنينة وسكينة واخلاق، وهذا ما حاولت أن أحلله بدقة في كتابي: "شوق... قراءة في أركان الإسلام".

قنطرة: "الممارسة الدينية الفردية بسبب كورونا تساعد على التخلص من إيمان القطيع، الذي يقوده الزعيم أو الشيخ" هذا ما صرّح به الأنثروبولوجي يوسف الصديق، هل تتفقين معه؟

ألفة يوسف: لا أعتقد أن الأمر آلي بهذا الشكل، فإيمان القطيع ليس متصلا بالعلاقة المباشرة مع الجماعة وإنما هو استبطان في المخيال الجمعي للدين. للأسف الدين عندنا انتصر فيه بعد الهوية الجماعي على بعد الأخلاق الفردية، في حين أن الرسول صل الله وعليه وسلم قد قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

هذا التصور الجماعي يعطي الفرد وهم مقدرة ووهم سيطرة وقوة، في حين أن الجوهر الروحاني للدين وهو ليس جوهر القطيع، يعطيه اطمئنانا وسكينة واحساسا بحدوده ورغبة في القيام بدوره في الكون مثلما أراد الله له أن يكون واعيا بأنه ثان في الكون وليس أولا فيه.

قنطرة: في مجتمعات عربية ومسلمة كثيرة، أوكلت مهمة التصدي لفيروس كورونا إلى لجان علمية وكفاءات طبية متخصصة وليس إلى أئمة المساجد للدعاء كما حدث سابقا. هل يسير المسلمون نحو الايمان بالعلوم ودور العلماء بعد هذه الجائحة؟ أم أن الأمر ظرفي ومستجدّ؟

ألفة يوسف: لست من الذين يؤمنون بالتقابل أو التناقض بين العلماء ورجال الدين وعندما أقول "رجال الدين" استعمل الكلمة بالمعنى الجنساني (اي رجال الدين ونساؤه).

هذا التصور القائم على التناقض وهمي، يريد أن يجعل العلم ضد الدين أو الايمان وأن يجعل الإيمان ضد العلم. من الطبيعي أنه ازاء جائحة تحتاج علاجا طبيا، يجب أن يقوم الاطباء بأدوارهم لكن ليس الأطباء وحدهم، فهنالك أدوار أخرى، مثلا المختص النفسي عليه أن يقوم بدوره في مساعدة الناس على تجاوز الخوف والقلق، والمختص الاجتماعي عليه النظر في دلالة الجائحة اجتماعيا وتأثيرها على المجتمعات البشرية وهكذا.

كذلك رجل الدين، يمكن أن قوم بدوره، فالدعاء لا ينفي العمل، وهنالك تصورات تجعل العالم ثنائيا، فالإنسان له أبعاد متعددة، بعده الروحاني حاضر في كل الاحوال، وعندما يكون في أقصى الافعال مادية واغراقا في الجانب المادي، فالجانب الروحي موجود أيضا، لذلك علينا أن نتجاوز هذه الثنائية على أساس أن رجل الدين يقصي الطبيب أو العكس، لنبحث كيف يمكن أن يتكاتف كل الناس كل من موقعه ومجاله للإجابة عن حاجات الانسان المتعددة التي تختلف وفق الظروف أولوياتها.

اليوم العلماء يُحترمون ورجال الدين يُحترمون والعمال والكتاب كلهم يحترمون، ويجب التوقف عن الاقصاء واقامة الكون على تفضيل دور على دور آخر. هذه الحياة كما ارادها الله قائمة على الاختلاف تقبل الجميع وتتسع إليهم ولا تفضل جماعة على أخرى.

قنطرة: رائحة الموت بسبب كورونا تزكم الأنوف في كل مكان، لكن جذوة القتل والعنف والانتقام مازالت متوهّجة لدى شعوب العالم عموما والشعوب المسلمة خصوصا، إذ أن وتيرة العنف المنزلي ومعدلات قتل الإناث ارتفعت في ظل الحجر الصحي. إلى ما ترجعين ذلك؟

ألفة يوسف: لنكن صادقين مع أنفسنا ونتوقف عن جلد الذات رغم أن وضعنا ليس مشرفا. العنف المنزلي الذي شاع خلال جائحة كورونا واثناء الاغلاق، لم يكن خاصا بالعرب المسلمين. أنا اتابع جيدا الاخبار الغربية، وهنالك بلغ العنف ضد النساء مبلغا كبيرا. صحيح أن الارقام قد تكون أكبر في الدول المسماة عربية ومسلمة، وربما اصلا الحديث في الموضوع ليس متاحا او شائعا كما في البلدان الغربية.

وفي كلتا الحالتين، المسألة تعود الى أن المرأة لا تعدّ ذاتً، فكرة المرأة بصفتها ذاتً هي فكرة جديدة، نشأت منذ القرن العشرين. قبل ذلك المرأة "موضوع".

عندما يجد الرجل نفسه مع المرأة في مكان مغلق مع عدم التعود على ذلك، لأن المخيال التقليدي يجعل الفضاء الخارجي (الشارع) خاصا بالرجل والفضاء الداخلي (المنزل) خاصا بالمرأة، عندها يحصل نوع من أنواع الصراع يتصور فيه الرجل أنه صاحب الحق باعتبار ان المرأة ملك له أو أنها جزء من المتاع بالمعنى العام للكلمة، وهذا هو التصور الفقهي للزواج، وهو وفق تعريف الفقهاء "عقد يشتري به الرجل فرج المرأة بموجب مال يدفعه لها" وهنالك تصور للبيع والشراء فانتِ ملك لي يمكن أن أفعل بكِ ما أشاء، والضرب والعنف يدخلان في اعتقاد الملكية.

وهذا نجده بشكل مختلف مع الابناء، فما حصل من عنف واعتداء يحصل ايضا على الأبناء، ومفهوم الطفل ايضا هو مفهوم حديث نشأ في القرن العشرين ويتطور شيئا فشيئا ونحن في مرحلة نضع فيها قرنا إزاء قرون عديدة من التاريخ، لذلك لا بد من وقت وعمل - والجمعيات تقوم بهذا العمل والذين يفهمون عمق الدين يقومون بهذا العمل أيضا- حتى تنشأ فكرة المساواة والتفاعل السلمي والمحبة والمودة والرحمة التي اشار اليها القرآن، وخصوصا حتى تصبح فكرة الزواج ليست ضرورة يلجأ اليها النساء والرجال لأسباب مختلفة في مجتمعاتنا ثم يقف كل منهما على صعوبة الحياة اليومية، وانما تصبح فكرة الزواج اختيارا ناضجا وواعيا قائما بالفعل على المودة والرحمة.

قنطرة: هل مازلت تخشين على حقوق المرأة التونسية بعد دستور 2014 وما تلاه من سنّ لقوانين تحررية؟

ألفة يوسف: أول خطر يستهدف الحقّ - مهما يكن هذا الحق- هو أن نعتقد أنه حق ثابت ما عاد في حاجة للدفاع عنه أو النضال من أجله. يجب أن نعي أن الحقوق تفتك ولا تهدى، وأنه ما ضاع حق وراءه طالب. إذا وضعنا كل هذا في عين الاعتبار، فمن الطبيعي أنني سأظل اخاف على حقوق المرأة التونسية أبدا، حتى في وجود القوانين، واراها ناقصة جدا، ولو أنها تنصف نسبيا المرأة في تونس، مقارنة بأوضاع المرأة في بلدان أخرى.

لنكن واعين الى أن الاستناد اليوم إلى مجلة الاحوال الشخصية التي مرت عليها عقود أصبح أمرا مضحكا، وكذلك الاستناد الى الدستور الذي كتب في 2014 فهو أيضا أمر مضحك، لأن الدستور قائم على الشيء ونقضيه وعلى الكلام وضده. والدليل أنه دستور يؤكد على المساواة بين المواطنين، ولكنه يعطي المرأة النصف في الميراث. وهو دستور يؤكد على المساواة بين المواطنين، ولكن عندما أذهب لأدفع الضرائب ثم أطالب بأن اضم ما دفعته الى ابنائي، فالمشرّع يقول لي لا، الزوج يجب أن يضم ذلك... والامثلة متعددة.

"مازال هناك مجال للدفاع عن الحقوق، ومازال هنالك مجال لتغيير العقليات المتكلسة والمتحجرة والمتخلفة في تونس "بلد حقوق المرأة".

وفضلا عن ذلك نسبة العنف تزيد كل يوم، وليست النسبة فقط في ارتفاع، بل شكل العنف ونوعيته ايضا، اذ أنه يتحول الى "عنف متوحش". لذلك سنظل ندافع عن المساواة التامة دون اي استثناء أمام القانون، وحتى ان تحقق ذلك فإنه قابل للتراجع عنه، ويجب أن نعلّم أبناءنا وبناتنا أنه مكتسب ويجب ان نضل واعين حتى لا يتم التراجع 

عنه.

قنطرة: تتبنّين الرأي القائل إنّ الديمقراطية لدى الاسلام السياسي تُختزل في نظرية "عود الثقاب" الذي يستعمل لمرة واحدة فقط. ألا ترين أنك تضعين التنظيمات الاسلامية جميعها في سلة واحدة؟ ألا تتلمّسين "إسلاما ديمقراطيا" بصدد التشكّل؟

ألفة يوسف: أنا أضع الجميع في سلة واحدة لأن جوهر تصورهم للديمقراطية لا يمكن أن يخرج عن "عود الثقاب" الذي يشتعل مرة واحدة، الا إذا ابتعد عن الحديث باسم الدين.

عندما تقول بوجود "اسلام ديمقراطي" أو "ديمقراطية اسلامية" فإنك تمزج بين اختيار بين البشر للتعايش وتعاملهم وفق منظومة سياسية معينة وهي الديمقراطية، وبين الدين بما يحمله لدى المتحدثين باسمه من بعد مقدس.

أنت بالضرورة هنا تمزج بين المقدس والدنيوي، وعندما نقول مقدس، فهو مقدس بالنسبة اليك، فكل التنظيمات الاسلامية وحتى في تاريخ المسلمين، كل الفرق كانت تختصم وتتقاتل وتتناحر، فهنا أنت تريد أن تفرض على الآخر تصورك للإسلام، في حين أن الديمقراطية هي نظام بشري يحاول أن يقيم طريقة من طرق التعايش السلمي بين البشر.

ففي الديمقراطية، لا يمكن لأحد أن يقول "إن قراءتي للديمقراطية مقدسة أكثر من قراءتك". لكن يمكن أن يأتي آخر من المسلمين، ويقول لك: "تمثلي للإسلام أصحُ"، فيُدخل الجانب المقدس في الموضوع. وعندها نخرج من نقاش فكري سياسي، إلى صراع ديني ايديولوجي. ولذلك لن أؤمن أبدا بالزج بالأديان في محرقة الخلافات السياسية. وأؤكد أن كل من يفعل ذلك ليس طالب دين انما هو طالب سلطة باسم الدين أو باسم المقدس.

قنطرة: لكن حركة النهضة التونسية قبلت بمدنية الدولة، وثبت أنها سلّمت الحكم في مناسبتين على الاقل، عندما لفظها الشارع في 2013 بعد التظاهرات الحاشدة التي اعقبت الاغتيالات السياسية، وهزيمتها امام حزب الباجي قائد السبسي. ألا ترين أنهم يحتكمون للصندوق واكراهات الشارع؟

ألفة يوسف: هنالك عبارة انتشرت كثيرا لراشد الغنوشي إمام حركة النهضة، مفادها أننا "خرجنا من الحكومة ولم نخرج من الحكم".

وفعلا النهضة مازالت في الحكم، سواء في زمن الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي عندما كانت موجودة وتحكم باسم التوافق أو من بعده. النظام السياسي الذي أرادوه لتونس هو نظام سياسي هجين له 3 رؤوس، وهذه الرؤوس القائمة على التفرقة لا أحد يتخذ منها أي القرار، فالقرار يضل دوما بيد حركة النهضة وما أن تشعر بضغط كبير اليها حتى تمر الى الدم والارهاب، وهذا ما قاله الشهيد شكري بلعيد: "عندما يضيق عليهم الخناق يلجؤون الى الدم".

النهضة لا تؤمن بإكراهات الصندوق، أو هي تلعب لعبة الديمقراطية مادامت في صالحها، تبحث دوما في تونس عن حزب أو شخصية أو جماعة تتخفى وراءها وتحكم بها حتى لا تتحمل هي مسؤولية الفشل في الحكم. ولم نشهد منذ أن قامت ما يسمونها "ثورة تونسية" نجاحا واحدا، إنما شبعنا فشلا.

حركة النهضة شأنها في ذلك، شأن كل الحركات الاسلامية، تنشد السيطرة شيئا فشيئا وتنشد بناء دولة الخلافة، وتنشد الأمة ولا تؤمن بالوطن، وأدبيّاتهم في ذلك معروفة، يريدون تفكيك الدولة حتى يبلغوا مرحلة التمكّن والتحكم في كل مفاصلها، ومشروعهم لا يمتد لسنة أو سنتين أو حتى عشرين سنة، انما لديهم الوقت كله، وكل لبنة مما يفعله المنتمون اليها اليوم، تفضي الى لبنة أخرى هدفها لا الديمقراطية ولا حكم الصناديق، انما اقامة دولة ثيوقراطية فاشية.

قنطرة: يُعاب على الاسلاميين كما ذكرت سابقا، لجوؤهم إلى "التقية" و"الايهام في القول". مع حركة النهضة تحديدا، أين تتجلى تقيّتهم تلك؟ وهل من أمثلة واضحة؟

ألفة يوسف: للإجابة عن هذا السؤال، أدعو القارئ فقط الى أن ينظر فيما كتبه راشد الغنوشي طيلة مسيرته السياسية، ولو كان لي وقت لأنجزت بحثا يكون درسا للتناقض والتقابل في المنطق.

هذا السيّد يمكن أن يقول انه لا يجد مشكلة مع المثلية الجنسية، في حين أننا نعرف جيدا موقف النهضة من المثلية والحريات الفردية. انهم يقدمون خطابا للغرب وخطابا آخر مختلفا تماما لقواعدهم واتباعهم.

الغنوشي يقول ان المرأة وظيفتها الاساسية هي وظيفة جنسية، لكنه قد يقدم خطبة عصماء في الحديث عن المساواة بين المرأة والرجل، ولكن في الآن نفسه يرفض المساواة في الارث، ثم يعود ليتحدث عن دور المرأة المناضلة واحترام النهضة لها.

الغنوشي الذي يقدم لك نصا كاملا في الحديث عن أهمية الديمقراطية وضرورة التداول السلمي على السلطة، هو على رأس حركة النهضة منذ أربعين سنة أو أكثر. هذا التناقض وهذه التقية أمر عادي فهي جوهر الحركات الاسلامية عبر التاريخ إلى اليوم.

قنطرة: ألا ترين أنك أخطأتِ بدعمك لائحة "تصنيف الاخوان تنظيما ارهابيا" في البرلمان؟ والحال أنك تدعمين حق التنظم والمشاركة السياسية لدى الاسلاميين قبل حتى رحيل نظام بن علي؟

ألفة يوسف: يجب أن نوضح أمرا هاما، الاسلامي مواطن تونسي، من حقه ما لم يثبت عليه القيام بفعل مخالف للقانون أن يتنظم سياسيا، وحتى إن ثبتت عليه مخالفة القوانين، من حقه التنظم سياسيا بعد الخروج من السجن.

السؤال في أي صنف من أصناف الأحزاب السياسية يتنظم؟ هل يمكن أن يسمح العالم بحزب سياسي ضد السود مثلا؟ اي حزبا عنصريا، الاجابة طبعا لا.

ذات الأمر بالنسبة لزمن بن علي، فعندما تحدثت عن حق الاسلاميين في التنظم السياسي فقد كنت مع أن يكون لهم كأفراد حزبا مدنيا، وليس حزبا دينيا مقدسا يتحول فيما بعد إلى حزب ينظر بشكل ما للإرهاب ويسكت عن بعض ما يقوله بعض منتسبيه، مثلما قال القيادي في النهضة نور الدين البحيري: "إن كان لديكم 10 آلاف أمني فنحن لنا 100 ألف انتحاري". وهذا كلام خطير جدا لم يحاسب عليه بعد هذا القيادي الذي كان في يوم من الأيام وزيرا للعدل في تونس.

عندما نتحدث عن حركة النهضة بصفتها حركة ارهابية فنحن نتحدث عن تاريخ تونسي نعرفه جيدا من زمن التفجيرات التي جرت في النزل التونسية في منتصف الثمانينات واعترف بها النهضويون أنفسهم، ونتحدث عن حرق الناس أحياء في باب سويقة، وعن دعواتهم في مجلس النواب بضرورة تقطيع الايادي والاوصال، ونتحدث عن اشخاص خرجوا للشارع ليؤكدوا أن العنف هو من أساليبهم ومن طرقهم. قواعد النهضة تتحدث عن الأمنيين في تونس بصفتهم "طواغيت". ولهذا كله دعمتُ اللائحة البرلمانية التي تصنف حركة النهضة حركة ارهابية. وستصنف كذلك يوما ما.

لكن هذا لا يعني أن المنتمين اليها أو من انتخبها ارهابي، إذ يمكن أن يكون هنالك من صدق أنهم حزب مدني وسيغيّرون تونس، وعلينا التمييز بين الفرد والتنظيم، وعندما نحاسب التنظيم على الخروج عن القانون أو عن اخلاق، فهذا لا يعني أن المتعاطفين مع ذلك التنظيم ستقع محاكمتهم جميعا أو قتلهم جميعا.

قنطرة: البعض يُعيب على د. ألفة يوسف تجنبها الخوض في نقد الاسلام من خارج المنظومة الدينية والروحانية ذاتها، بل تشبّثها بالدفاع عن الكثير من جوانب الدين الاسلامي وارجاع الخلل لحزمة الفكر الديني (آراء الفقهاء والتأويلات والاجتهادات) وليس للنصوص المقدسة في حد ذاتها. كيف تردّين عليهم؟

ألفة يوسف: أنا أؤمن أن المشكلة ليست في الأديان، واقصد اي دين، وعندما أتحدث من منظور الاسلام، فأؤكد أن المشكلة ليست في الاسلام. المشكل في قراءات الاسلام وفيما فعله به المفسرون والفقهاء وبعض المسلمين عبر التاريخ.

من حقي أن أكون من داخل المنظومة، وليس هنالك شرط يشترط على المفكر الزاوية التي من خلالها يتعامل مع النصوص أو مع الواقع.

هنالك فلاسفة كبار قرؤوا التراث من داخل منظوماتهم، وهنالك محللون نفسيون كبار وأذكر منهم Françoise Dolto التي كانت محللة نفسية وطبيبة أطفال مسيحية ولم يتهمها أحد أنها تتكلم من داخل المنظومة. أن يكون البعض منتمين الى تمثل مختلف ورؤية أخرى للدين فهذا حقهم، ولا أحد يلومهم على ذلك.

أنا أيضا لا ألوم مفكرا لأنه ينظر الى الاسلام من خارج المنظومة ويعتقد أن المشكل في النصوص المقدسة، هذه هي الحرية.

الكثير من الدينيين والكثير من اللاّدينيين ظاهريا هم متقابلون، لكنهم في الواقع متشابهون في اعتقادهم امتلاك الحقيقة، أن أؤمن بنسبيّة الحقيقة لأن المطلق هو الله وحده، أما تمثلات الظاهر في الحياة فهي نسبية. أنا أتحمل مسؤولية اختياري التعامل من داخل المنظومة الاسلامية وأدافع عنه، ومن الطبيعي أن يؤمن آخرون بما يسمى "التعامل العقلاني الموضوعي" وبتعامل فيه "جفاف معرفي" ولهم الحق في ذلك.

قنطرة: هل تخيفك نوايا الرئيس التونسي الحالي قيس سعيّد؟ والحال أن كثيرين يرجعون تفاقم الأزمة الحالية إلى تجاوزه لصلاحياته ومحاولاته تغيير النظام السياسي برمته؟

ألفة يوسف: أنا قاصرة عن فهم الرئيس قيس سعيّد، خاصة عندما يتكلم كلاما عاما غامضا يتهم فيه خصوما خياليين أو واقعيين دون أن يفصح عنهم. أنا لا أفهمه عندما يتحدث عن غرف مؤامرات مغلقة ومظلمة، وعن تشبيه نفسه بعمر بن الخطاب، وربما منظومته السياسية ورؤيته للكون تختلف عن رؤيتي.

لذلك أعتقد أن هذا الشخص جاءت به صدف وسياقات معينة الى هذا الموقع، وأرجو أن يثبت انجازا ما وإن كنت أشك في ذلك شكا كبيرا.

إن كان قيس سعيّد يدعو إلى تغيير النظام السياسي فأنا أيضا مواطنة تونسية أدعو لتغيير هذا النظام السياسي الهجين، الذي قُدم الى تونس في مرحلة تاريخية هي عاجزة على أن تتقبله فيه، تونس اليوم في مهب الريح، لديها سلطة سياسية بثلاثة رؤوس لكن لا أحد يحكم. وهذا النظام السياسي لن يولّد ديمقراطية، وأقصى ما سيولده هو الفوضى والانهيار والدمار الذي تسير اليه بلادنا بخطى حثيثة. تغيير النظام السياسي أمر لازم وضروري وقادم شئنا أم أبينا.

قنطرة: هل لديك وصفة للحلّ بالنسبة للمأزق التونسي الحالي؟

ألفة يوسف: ليس هنالك حل سحري، لكن هنالك شرطان ضروريان للخروج من الأزمة: أولا تغيير هذا النظام السياسي الهجين الذي أوقعنا فيما نحن فيه من خلافات وصراعات وانهيار للدولة وتفكك لمؤسساتها.

ثانيا: تغيير كل الطبقة السياسية التي أتت بعد 14 يناير 2011، وأعتقد أنها في كتب التاريخ ستدرس بصفتها النموذج المثالي لمفهوم الفشل السياسي والهواية والفساد السياسي. فعليهم جميعا الرحيل هم ومنظومتهم "الربيعية الوهمية" وهي في الواقع "خريف تونس".

في تونس كفاءات وأناس وطنيون قادرون على اعادة بنائها من جديد، فجميعا الأزمات الاقتصادية لا تقضي على الشعوب، إنما يقضي عليها يأسها في قدرتها على تقرير مصيرها.

أجرى الحوار إسماعيل دبارة

حقوق النشر: قنطرة 2020

إسماعيل دبارة: صحافي وعضو الهيئة المديرة لمركز تونس لحرية الصحافة.

 

   
عندما تطرق الصوفية أبواب العقلانية... قراءة في كتاب »وجه الله: ثلاثة سبل إلى الحقّ« للكاتبة ألفة يوسف

قد يبدو من العسير جدّا على الفكر الإنساني أن يتعامل مع الظاهرة الدينيّة بمعزل عن منطق التأويل الذي يستدعي في الغالب مواقف تدّعي القدرة على تفكيك التجربة الدينيّة وقراءة الشّأن الدّيني بنزعة عقلانيّة تسعى جاهدة إلى كسر الأنظمة المعرفيّة المتأسّسة  على قراءات سطحيّة لمجموعة من المتديّنين الرّبوبيين أو الكتابيين مأخوذة أحيانا بالتفسير الفقهي والأسطوري، وهنا تكمن مركزيّة الإيمان العقلي باعتباره السبيل الأكثر فاعليّة في إدراك الوعي الكامل بالخلاص الإنساني في عالمي الشّهادة والغيب.

ولكن قد يتغيّر الفكر في حيازته للعقلانيّة وانضباطه وفق شروط المنطق العقلي فيركن إلى أرضيّة لزجة كحلّ وحيد ونهائي للخروج من دوامة البحث الإشكالي والنقدي المحفوف دائما بالقصور في استيفاء شروط القول بمشروعيّة الحقيقة المطلقة حول مفاهيم جوهريّة هي بالأساس المحرّك الرئيس للظاهرة الدينيّة، ونعني بذلك مفاهيم « الإله، الإنسان، الطبيعة « فتبرز القراءة الروحانيّة الصوفيّة بديلا عن الطروحات العقليّة والمنطقيّة وتتحوّل حقيقة الإيمان من تجربة فلسفيّة علميّة قائمة على فهم عقلاني لمستويات الوجود الإلهي والإنساني إلى تجربة نورانيّة صوفيّة تقدر على تقديم إجابات دينيّة على الكثير من الأسئلة الشائكة والمتعلّقة بقضايا الإنسان في أبعاده الروحيّة ككائن بشريّ أكرمته المشيئة الإلهيّة وكرّمته باستخلافها في الأرض.

في مضمون الكتاب ودلالاته

وفي هذا السياق يمكن تنزيل كتاب الكاتبة التونسيّة ألفة يوسف الصادر حديثا تحت عنوان « وجه الله: ثلاثة سبل إلى الحقّ» عن دار مسكلياني للّنشر وهذا الكتاب يمثّل مرحلة جديدة من مراحل بحث الأستاذة ألفة يوسف في قضايا الإيمان وإشكالاته الدينيّة على امتداد عقدين من الزمن من خلال مؤلفات عديدة أمعنت فيها الكاتبة النظر في مسائل دينيّة مرتبطة بالأحكام الفقهيّة والتشريعات الدينيّة فضلا عن العودة إلى البحث في أصل الدّين والإيمان الغيبي وذلك من خلال تركيزها على عناوين من قبيل»حيرة مسلمة» و»ناقصات عقل ودين» و»الإخبار عن المرأة في القران والسنّة» و»شوق قراءة في أركان الإسلام» وصولا إلى إصدارها الأخير « وجه الله: ثلاثة سبل إلى الحقّ» ، وهذا الكتاب وإن مثّل مرحلة جديدة من مراحل التفكير في دراسة الدّين بجميع مكوّناته ومستوياته المعرفيّة الحسيّة والمّاديّة فإنّه جاء معلنا عن قطيعة نقديّة مع التفكير العقلاني في مساءلة التجربة الإيمانيّة التي يعيشها الإنسان أنطولوجيا وايبستيمولوجيا ومحمّلا في الآن نفسه بإجابات تدّعي اليقين المعرفي الكفيل بإزالة القلق المدهش الذي ما انفك يعتري الإنسان في بحثه عن حقيقة الوجود في إطلاقيته ونسبيته «الوجود المطلق والوجود النسبيّ». وبقليل من التمعّن في كتاب « وجه الله: ثلاثة سبل إلى الحق» للكاتبة ألفة يوسف نستنتج أنّ المقدّمات التي انبتت عليها أفكار هذا الكتاب ترتكز أساسا على الأبعاد الروحيّة في صياغة طبيعة العلائق الجامعة بين الإنساني والإلهي أو بين الكلّي والجزئي وهو مدار اشتغال الصوفي في انشغاله بالإلهيات المجرّدة وإنكاره الإلهيات الحسيّة وفي رحلته أيضا نحو معانقة المطلق وتجميل الطريق المؤدية إلى الله.

الطريق إلى الله بين العقلي والنوراني

لمّا كان الله في المنظور الصوفي أجمل من الطريق إليه، فإنّ الكاتبة ألفة يوسف حدّدت ثلاثة سبل كفيلة بتحقيق الوصول إلى الحقّ الذي هو اسم من أسماء الله الحسنى المدرجة في مدوّنة الفقه الإسلامي ، وهذه السّبل الثلاث هي طريق العمل ، وطريق الرّضا وطريق الذّكر. ولكنّ اللّافت أنّ مجموع هذه الطرق التي أشرنا إليها تطرح سؤالا جوهريا كلّما أخرجناها من سياقها الديني الروحاني والقينا بها تحت وصاية العقل والتفكير . ذلك أنّ التجربة الإيمانية القائمة على العمل تبقى محكومة بقيود الرّضا والقناعة ومدعوّة إلى إنشاد هذا الخلاص في التسبيح والذّكر فلا عمل إذن خارج حدود الرّضا ولا فعل في قلب موازين الواقع إذا ما اقتضى الأمر ذلك، وهي رؤية صوفيّة تحصر تجربة إيمان الفرد في معاني الرّضا والقناعة واستلهام الصبر وتدعوه إلى أن يعمل في حدود الممكن والمتاح له بشروط القاعدة الفقهيّة التي تعطي للإنسان إمكانات العمل على تحسين شروط الحياة دونما تعدّ على حرمة الرّضا بمشيئة الله وتقديره، يعني جدلا العمل في حدود الرضّا وكلّ عمل خارج هذه المقرّرات الفقهيّة المحدّدة لدين الله هي انحراف وسقوط في البدع والهرطقة الموجبتين للعّنة الأبديّة.

وهذه المقرّرات المحمولة على الرّضا بمشيئة الله والتي لا يحقّ للفرد مجرّد التفكير في تجاوزها، إنّما هي مقرّرات فقهيّة صادرة عن مشارب دينيّة ربطت إرادة الإنسان بأغلال تفسيريّة أودعته في غياهب الجهل وحصرت سعادته وشقاءه في مدى التزامه بتلك المشروطيات المألوفة لدى المحيط الفقهيّ والأصولي، فالجمع بين طريق العمل، وطريق الرضّا هو نسف لطرفي التفاوض بين الفعل الإنساني والإرادة الإلهيّة. وتزداد النزعة الصوفيّة في كتاب «وجه الله» للكاتبة ألف يوسف عمقا واتّساعا في حديثها عن طريق الذّكر سبيلا مؤدّيا حتما إلى الله الحقّ من خلال عزوف النّفس عن الشهوات والتجافي عن الدنيا التي هي في نظر الصوفيّ دار فانية وزائلة، فالذّكر بما هو قطع علاقة القلب بالحياة الدّنيا وانصرافه إلى الشقاء من أجل الوصول إلى دار الخلود والبقاء، هذا الطريق بمثابة طريق العزلة والمجاهدة بتصفية القلب لذكر الله وتزكية النّفس وتهذيب الأخلاق، وهي الطريق التي سلكها الإمام أبي حامد الغزالي في آخر حياته بعد ما انتبه إلى قصور العقل عن إدراك جوهر الإيمان وحقيقته أثناء رحلته مع العقلانيّة والمعتزلة. وهو ما جعل الخروج عن منطق العقل في الوصول إلى فهم حقيقي لأسرار الإيمان ممكنا بالركون إلى التسليم بنور مشكاة النبوّة، وما الإيمان إلاّ نور يلقى به في الصدور وما الإيمان إلاّ تجربة فرديّة ذاتيّة معلّقة بالقلب لا بالعقل.

فهل وقفت الكاتبة ألفة يوسف على مشارف النهاية التي توّقف عندها أبو حامد الغزالي في كتابه « المنقذ من الضلالة» وهي الباحثة التونسية المختصّة في اللغة العربيّة واللسانيّات تعدّد المعنى في القرآن والمهتمة بالمقاربات النقديّة للفّكر الإسلامي؟

من المؤكّد أن كتاب «وجه الله ثلاث سبل إلى الحقّ» لا يعتمد لغة كتب المتصوّفة التي يعسر فهمها من قراءة أولى وتتطلّب جهدا كبيرا لفكّ رموزها التعبيريّة وأسرارها الدلاليّة وإنّما جاء الكتاب في لغة مألوفة وفي متناول القارئ العادي تتوفّر على تبسيط للمفاهيم وتفاسير تساعد على استرسال الفهم لمتن الكتاب ومضامينه. وبمقدور القارئ أن يتعقّب أطروحات الكاتبة كما انعكست في عنوان الكتاب» وجه الله ثلاثة سبل إلى الحقّ» وهو عنوان يكشف عن المسارات الممكنة المؤدّية إلى المطلق والمقترنة بتضمين آخر وهو أنّ «وجه الله» هو تصوّر ذهني من إنتاج نزعة عقليّة محكومة بالحاجة لإشباع رغبة  المؤمن في الانصراف إلى الذّات الإلهيّة المطلقة عبر فعل إصباغ المعنى على صورتها ونتبيّن ذلك من خلال استحضار الكاتبة لعبارة وجه الله الواردة في السرديات التاريخيّة للحضارات القديمة والتي تشمل أيضا الحضارات البابليّة والكنعانيّة والتوراتيّة وصولا إلى إله محمّد وإله عيسى وإله إبراهيم وموسى . فالله نفسه يتحوّل إلى وجهة مخصوصة يتعيّن على المؤمن البحث عن السبل المؤدّية للوصول إلى تلك الوجه المعيّنة، فالله واحد ولكن الطريق المؤدّية إليه عديدة وكثيرة بحسب عدد الأنفـــس على حــــدّ تعبير ابن القيم الجوزيّ.

ومهما يكن من أمر يبقى هذا الكتاب إضافة نوعيّة وكميّة للمكتبة العربيّة في جهودها إلى اغناء الفكر الديني وتنويعه ولكن ليس بالعقل وحده يستطيع الإنسان أن يحيا بفكرة الاستخلاف على الأرض بل يحتاج كذلك إلى نزعة روحانيّة تمنح الإنسان القدرة على بلوغ حسن البقاء . فهل كان لا بدّ من التجربة الصوفيّة النورانيّة ليكتمل الإيمان بإحياء القلب وإيقاظه من سباته التاريخي العميق؟ وهل أنّ قدر العقلانيّة يكمن في إنتاج الحقيقة في حين تظلّ النزعة الروحانيّة نورا يضيء الطريق إلى تلك الحقيقة؟..

د. الأسعد العياري
كاتب وشاعر وإعلامي


 
Inquiétudes d'une musulmane

Propos sur la succession, le mariage et l'homosexualité

Auteur·e(s) Olfa Youssef

Traduit par Jalel El Garbi
Une nouvelle lecture, ouverte et sans tabous des textes sacrés.

Présentation

En adoptant une démarche scientifique (linguistique, psychanalytique et historique) appliquée au Coran et aux Dits du Prophète Muhammad, Olfa Youssef propose une relecture novatrice de l’islam en choisissant des sujets actuels qui animent les sociétés arabes et musulmanes. En revendiquant le droit à l’interprétation des textes sacrés en tant que femme, Olfa Youssef met à l’épreuve les règles islamiques qui codifient l’héritage, la polygamie, l’homosexualité, qu'elle juge patriarcales et partisanes. Composé de chapitres thématiques accessibles au grand public, l’ouvrage vise à montrer qu’une égalité de traitement entre femmes et hommes est possible dans le monde arabo-musulman.

 
Nouveau livre d’Olfa Youssef : ‘’Ahla Kalam’’, face à l‘injure...

Pour l’avoir subi, si intensément, depuis 2011, de toutes parts et de différents styles, Olfa Youssef nous gratifie d’un opuscule d’utilité publique consacré à l’injure. A partir d’un recensement méthodique de toutes les moqueries, calomnies, attaques personnelles et autres injures qui lui étaient adressées sur les réseaux sociaux (avec des pics jusqu’en 2013), elle a procédé en chercheur académique à une analyse sémantique, sémiologique et sociologique, jusque-là inédite. Le contenu trahi l’auteur, exprime l’imaginaire populaire collectif, constitue un matériau riche à interpréter judicieusement, nous dit-elle. Savoir le décoder et comprendre ses significations est intéressant pour tous.


 

ألفةYOUSSEFL'auteure

Olfa YOUSSEF

اشتراك

اقرأ مجانا!

قم بتنزيل وقراءة أعمال الكاتبة ألفة يوسف مجانًا

الإتصال

Copyright © 2025 OlfaYOUSSEF.com. All Rights Reserved. Powered with by IDEAL CONCEPTION